التحدي الاقتصادي: تحويل النمو إلى رفاه
صدرت الأسبوع ما قبل الماضي النشرة الإعلامية لصندوق النقد الدولي التي تشير إلى اختتام المملكة لمشاوراتها السنوية مع الصندوق والتي تتم تنفيذاً للمادة الرابعة من اتفاقية الصندوق والتي تتضمن التزام الدول الأعضاء في الصندوق بالتشاور مع الصندوق حول السياسات الاقتصادية المختلفة التي تؤدي إلى تعزيز التجارة والتبادل بين الدول، وتحقيق الاستقرار المالي، واستقرار أسعار الصرف. وتمر هذه المشاورات بمراحل متعددة، تبدأ بتحديد الأولويات والمواضيع التي ستركز عليها المشاورات، ثم عملية جمع البيانات، والتشاور بين بعثة الصندوق والمسؤولين في المملكة للتوصل إلى فهم مشترك لهذه السياسات، وأخيراً عرض نتائج هذه المشاورات على المجلس التنفيذي للصندوق الذي يمثل فيه 24 مديراً تنفيذياً يمثلون دولاً أو مجموعة من الدول، ليبدوا مرئياتهم حيال نتائج هذه المشاورات. وهذه النتائج مهمة جداً بالنسبة لكل دولة عضو في صندوق النقد الدولي، لأنها تمثل رؤية المجلس التنفيذي للصندوق الذي يمثل الجهاز الرئيس لصنع القرار في الصندوق وموظفي الصندوق، وهي حل وضع الدولة وسياساتها الاقتصادية، وبالتالي تنعكس على ثقة الأسواق بهذه السياسات.
من أبرز نتائج هذه المشاورات هذا العام هو تقديرات النمو الاقتصادي القوي الذي تشهده المملكة حالياً، حيث يتوقع أن يتجاوز معدل النمو هذا العام 2012 ما نسبته 6 في المائة، بعد أن حقق معدلاً تجاوز 7 في المائة في عام 2011، هذا بالمقارنة مع معدل نمو الاقتصاد العالمي الذي يتوقع أن يبلغ 5.3 في المائة. أضف إلى ذلك أن هذا المعدل ــــ معدل النمو في المملكة لعام 2012 ـــ يعد أعلى معدلات النمو في مجموعة العشرين، وهو كذلك أعلى من متوسط معدل النمو في الاقتصادات الصاعدة التي يتوقع أن يبلغ معدل نموها خلال هذا العام 3.6 في المائة، وأعلى من متوسط معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي يتوقع أن يبلغ 3.3 في المائة. وأكثر ما يميز التطورات الاقتصادية في المملكة، والتي أشاد بها الصندوق، هو زيادة نمو الاقتصاد غير النفطي، حيث أصبح أقل عرضة للتقلبات في القطاع النفطي. حيث إن السياسة المالية والنقدية المتبعة في المملكة، والتي تركز على العمل بعكس الدورات الاقتصادية Countercyclical Policy، أسهمت إلى حد كبير في اتساع الحيز المالي، والقدرة على التوسع في الإنفاق الحكومي في عام 2011 دون أن يؤثر ذلك على استقرار واستدامة متانة الوضع المالي، ما أسهم في توسع الاقتصاد غير النفطي متجاوزاً أعلى معدلاته في ثلاثة عقود، حيث سجل الاقتصاد غير النفطي نموا بمعدل 8 في المائة، هو الأعلى منذ عام 1980.
هذه المكاسب الاقتصادية التي حققتها المملكة على جانب مؤشرات الاقتصاد الكلي لا تعني بالضرورة أن الصورة إيجابية بالكامل، فصندوق النقد أشار إلى بعض الجوانب التي يجب العمل عليها لكي يتحول هذا الزخم من الإنفاق الحكومي الذي تجاوز جميع المعدلات التاريخية، وهذا النمو الاقتصادي إلى تنمية حقيقية تشمل بفوائدها جميع المواطنين. من ذلك، التركيزة على فكرة استدامة هذا الزخم من النمو والاقتصادي والفوائض المالية، من خلال استثمارها بما يعود بالفوائد على الجيل الحالي والأجيال المقبلة. وفي هذا الإطار، فإن الجميع متفقون على أهمية تركيز الإنفاق على الاستثمار سواءً في مجال تعزيز البنى التحتية، أو في مجال التعليم. المملكة حالياً تتوجه نحو ذلك من خلال الاستثمارات الكبيرة في مجال التعليم، سواءً التعليم العام، أو التعليم العالي، ومن خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. كذلك هناك توجه كبير نحو استثمار المزيد من هذه الفوائض في تعزيز البنى التحتية، التي ما زالت تواجه الكثير من الاحتياجات المتزايدة تبعاً لتزايد النمو السكاني خلال الـ 20 سنة الأخيرة. الاستثمارات الكبيرة في قطاع الصحة، وفي قطاع النقل، وفي قطاع التعدين، ينتظر لها أن تضيف الكثير إلى إمكانات النمو الاقتصادي للمملكة في المستقبل، وتعزز من الخدمات المقدمة وفرص التوظف للمواطن.
لكن تبقى قضية مهمة، هو أن تحقق هذه الاستثمارات الضخمة في مجال التعليم والصحة والبنى التحتية الأهداف المرجوة منها، وهو فعلاً ما يهم المواطن. وجود الوفورات المالية الكبيرة للمملكة تحقق للمملكة استقراراً مالياً متميزاً مقارنة بالكثير من الدول، وهو نجاح يحسب للسياسة المالية في المملكة، حيث إن المملكة قادرة من خلال هذه الوفورات على تمويل موازناتها بالمستوى الحالي نفسه لعدة سنوات مقبلة، حتى مع انخفاض أسعار النفط. لكن ما يعني المواطن في النهاية هو ما سيجنيه من هذه الاستثمارات، سواءً على جانب التعليم أو على جانب الصحة، أو على جانب توافر فرص العمل، أو على جانب الرفاه الاقتصاد بشكل عام. هذا الجانب هو ما أشار إليه صندوق النقد الدولي بكفاءة الإنفاق، حيث يحقق كل الإنفاق أعلى عائد ممكن سواءً على جانب النمو الاقتصادي، أو على الجانب التنموي. تحقيق الرفاه الاقتصادي للمواطن، وهو في اعتقادي أكبر تحد يواجه الكثير من المسؤولين حالياً، حيث إن عدم كفاية الاعتمادات المالية لم يعد مبرراً مقبولاً الآن.