هروب رؤوس الأموال (2)
تناولنا في الحلقة الأولى من هذا المقال خلفية نظرية عن عمليات هروب رؤوس الأموال ومسبباتها وطرق التهريب، اليوم نتناول تقديرات هروب رؤوس الأموال في العالم وذلك وفقا للتقرير الذي أصدرته شبكة العدالة الضريبية في الشهر الماضي عن الثروات غير المسجلة والتي يعتقد أنها توجد في مراكز الأوفشور التي تمثل جنة الضرائب لمثل هذه الثروات.
مراكز الأوفشور التي تمثل جنة للضرائب تتصف بخاصيتين رئيسيتين، السرية المطلقة حيث لا يمكن، أو ليس من السهل، الحصول على المعلومات المالية من البنوك الموجودة في هذه المراكز أو غيرها من المؤسسات المالية لاستخدامها في أغراض مثل فرض الضرائب، وكذلك سرية الكيانات القانونية القائمة فيها، حيث قد لا تسمح القوانين أو الممارسات الإدارية المطبقة بتوفير المعلومات عن الشركات أو المؤسسات أو غيرها من الكيانات القانونية، مثل المعلومات عن المالكين أو المساهمين أو المستفيدين، أو الأشخاص المسؤولين عن استخدام الأصول أو الحسابات المالية إلى آخر هذه المعلومات المهمة التي يمكن أن تساعد في تتبع أصحاب الثروات المختبئة في هذه المراكز. الصفة الثانية الأساسية هي عدم وجود الضرائب أو انخفاض الضرائب إلى مستويات دنيا، أو أن القوانين السارية يمكن الالتفاف حولها بسهولة للتخلص أو التهرب من عبء الضريبة، على سبيل المثال من خلال تشكيل الكيانات القانونية للشركات بالصورة التي تمكن من ذلك.
بالطبع تقدم جنات الضرائب في العالم خدمة جليلة لأصحاب الثروات والتي تتمثل في إمكانية التهرب من دفع التزاماتهم الضريبية، نظرا لضمان إخفاء أساس الضريبة وهو الثروة، وبالرغم من أن هذا الأمر مفيد لصاحب الثروة، إلا أن ذلك يترتب عليه خسارة للدول التي ينتمي إليها أصحاب هذه الثروات، وذلك لفقدان الإيرادات الضريبية التي يمكن تحصيلها على هذه الثروات أو الدخول التي تتولد عنها. معنى ذلك أن مراكز الأوفشور تسهم بهذا الشكل وبصورة فاعلة في جريمة التهرب الضريبي على المستوى الدولي.
تقدر شبكة العدالة الضريبية أنه في عام 2010 يملك أثرياء العالم أصولا مالية تقدر بنحو 21 تريليون دولار من الأصول المالية غير المسجلة والمخبأة في جنات الضرائب السرية، لاحظ أن هذا الرقم ضخم جدا إلى الحد الذي يتجاوز فيه إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لاثنين من أكبر اقتصاديات العالم وهما اقتصاد الولايات المتحدة واليابان. من ناحية أخرى، فإن الشبكة أيضا تقدر أن الأشخاص ذوي الثروات المرتفعة يملكون نحو 32 تريليون دولار من الأصول المختبئة في مراكز الأوفشور، وهو ما يقترب من نصف حجم الاقتصاد العالمي. الواقع أن مثل هذه التقديرات الخيالية تثير الشكوك حول مدى دقة تلك التقديرات.
بالنسبة للشبكة تعد هذه التقديرات متحفظة لأنها تتناول فقط تقديرات الثروة المالية للأغنياء، ومن ثم لا تشمل باقي أشكال الثروة مثل الأصول الحقيقية كالعقارات والمقتنيات الثمينة وغيرها من أشكال الثروة غير المالية. على أي حال تمثل تقديرات الشبكة لهذه الثروات المختبئة ما يراوح بين 21 و32 تريليون دولار، والتي تمثل أساسا للضريبة التي لو جمعت على عوائد هذه الثروات فإن الدول النامية يمكن أن تحقق ما بين 190 و280 مليار دولار سنويا كإيرادات ضريبية على عوائد هذه الثروات، وهو رقم ضخم بمقاييس المالية العامة لحكومات الدول النامية، حيث يمثل هذا الرقم ضعف تدفقات مساعدات التنمية الرسمية إلى الدول النامية سنويا.
بالطبع عندما نقوم بالتعميم على الدول النامية فإن هذه الإيرادات الضائعة تمثل مصادر مالية يمكن أن تحدث فارقا كبيرا في التمويل المتاح للعديد من دول العالم، بصفة خاصة الدول الفقيرة، لكن بالنسبة لبعض الدول الأخرى مثل الدول النفطية التي لا تجمع ضرائب أصلا ولا تتدفق لها مساعدات مالية خارجية، بل إنها في واقع الأمر تندرج في نطاق الدول المانحة، أو حتى الدول الناشئة مثل الصين، فإن إيراداتها الضائعة من الضرائب على هذه الثروات لن تضيف بعدا جوهريا لماليتها العامة.
من بين هذه التقديرات قامت شبكة العدالة الضريبية بعمل تقديرات لرصيد ثروات الأغنياء في أكبر 20 دولة يتم تحويل الأموال منها في العالم إلى مراكز الأوفشور والموضحة في الجدول رقم (1)، ويلاحظ من الجدول أن هناك دولتين عربيتين تقعان بين أكبر 20 دولة في العالم يملك أثرياؤها ثروات في مراكز الأوفشور وهما الكويت والسعودية. حيث تحتل الكويت المرتبة الخامسة عالميا بالنسبة لحجم الثروات المخبأة في مراكز الأوفشور المالية برصيد يصل إلى نحو نصف تريليون دولار، بينما تحتل المملكة المرتبة العاشرة عالميا برصيد يقدر بـ 308 مليارات دولار. فهل بالفعل هذه التقديرات لثروات أثرياء هاتين الدولتين دقيقة؟ شخصيا أميل إلى التشكيك في صحة هذه التقديرات لهذه الثروات المختبئة في جنات الضرائب لأثرياء هاتين الدولتين لعدة أسباب:
الأول أنه إذا كان الحافز الأساسي للاحتفاظ بهذه الثروات في الخارج هو البحث عن جنة للضرائب في مراكز الأوفشور، فإن السعي نحو التهرب من الضرائب لا يمثل حافزا لأصحاب الثروات في هاتين الدولتين، حيث لا توجد ضرائب تقريبا على الثروات في هاتين الدولتين، ومن ثم فليس هناك المحفز الضريبي الذي يمكن أن يدفع بهذه الثروات الضخمة للانتقال والاختباء في هذه المراكز. فبشكل عام تعد دول مجلس التعاون جنات ضرائب.
قد يقول قائل أيضا إن هذه الثروات تختبئ بسبب محفزات أخرى، أهمها أنها نشأت أساسا من مصادر غير مشروعة، قد يكون هذا مبررا معقولا، ولكن هل يصل حجم الاقتصاد الخفي في هاتين الدولتين إلى الحد الذي يمكن أن يولد هذا القدر من الثروات؟ في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل لغياب الدراسات الدقيقة عن حجم الاقتصاد الخفي في الدولتين.
الثاني أن هذه التقديرات للثروات المختبئة قد تكون مرتفعة بشكل كبير جدا في حالة الكويت على نحو خاص لعدة أسباب أهمها أن الدولة هي المالك الرئيس للعنصر الأساسي المولد للدخل في الدولة وهو النفط، والذي تتولى الدولة مهمة بيعه إلى الخارج وتوزيع الإيرادات النفطية من خلال برامج الإنفاق العام المختلفة، ومثلما هو الحال في الدول النفطية في المنطقة، يمثل القطاع النفطي المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، من ناحية أخرى، فإن الناتج غير النفطي ليس جوهريا إلى الحد الذي يمكن من تكوين هذا القدر الضخم من الثروات، وأخيرا فإن الصندوق السيادي للدولة وهو أكبر الأصول المالية التي تملكها الكويت على الإطلاق يمثل نحو نصف هذه التقديرات وهو أمر غير منطقي.
لهذه الأسباب أميل إلى الاعتقاد بأن هذه التقديرات مبالغ فيها، وأن هذه المبالغة في التقديرات ربما تعود إلى أسلوب حساب الثروات بالطرق المستخدمة في تقدير هروب رؤوس الأموال من ميزان المدفوعات الخاص بالدولة، على سبيل المثال غالبا ما يدرج بند "السهو والخطأ" ضمن تقديرات الأموال الهاربة، وفي عام 1992 عندما بدأت عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وإعادة إعمار الكويت أنفقت الكويت قدرا ضخما من احتياطياتها في العملية، وفي هذا العام ظهر بند السهو والخطأ في ميزان المدفوعات الكويتي على نحو غير مسبوق، بالطبع وفقا لأساليب التقدير المتعارف عليها في مجال هروب رؤوس الأموال سينظر إلى هذا الرقم على أنه هروب لرؤوس الأموال الخاصة، بينما هو في حقيقة الأمر غير ذلك.
وأخيرا إذا ما افترضنا أن هذه التقديرات صحيحة هل يمكن تبرير ارتفاع حجم الثروات المختبئة لأثرياء الكويت بالنسبة لأثرياء المملكة، مع أن الاقتصاد السعودي يفوق حجم الاقتصاد الكويتي؟ الإجابة هي أنه على فرض أن هذه التقديرات صحيحة فإن هذا الفرق يمكن تبريره بالفروق في الفرص المتاحة للقطاع الخاص في كل من المملكة والكويت، حيث تنحسر هذه الفرص على نحو كبير في الكويت مقارنة بالوضع في المملكة.