مُفاجأة هبوط أسعار النفط!
وصلت أسعار النفط خلال الأشهر القليلة الماضية إلى ما فوق 120 دولاراً للبرميل، وهو أمر طبيعي مع استمرار الانتعاش الاقتصادي وثبات مستوى المعروض. وكانت الأسعار مُرشحة للصعود فوق هذا المستوى في غياب أي مؤثرات سلبية. لكن شيئا ما حدث وانخفضت الأسعار دون سابق إنذار وخلال زمن قصير إلى ما دون 90 دولاراً، وبنسبة تزيد على 25 في المائة. وهي من دون شك ضربة قاسية وحدث مفاجئ بالنسبة لمعظم المنتجين، وعلى وجه الخصوص الدول الأقل إنتاجاً. وكانت عوامل السوق النفطية خلط بين دول مثل العراق وليبيا اللذين يحاولان بقدر الإمكان زيادة الإنتاج نظراً لظروفهما المالية الخاصة والدولة الإيرانية التي أجبرت على تخفيض إنتاجها كجزء من العقوبات الدولية المفروضة عليها. وكان من الممكن أن يخلق ذلك الوضع موقفاً يحفظ للأسعار توازنها ويمنعها من الهبوط بتلك النسبة الكبيرة. ولم يكن خافياً على صُناع القرار أن الاقتصاد العالمي خلال الأشهر الماضية كان متماسكاً ويميل إلى استعادة عافيته والعودة إلى النمو، باستثناء الأزمات المالية التي تتعرض لها اليونان وبعض الدول الأوروبية الأخرى، مثل إسبانيا والبرتغال، وإلى حد ما إيطاليا. ودعونا ننفي ما يظنه البعض من أن إنتاج غاز السجيل في الولايات المتحدة وزيادة إنتاج النفط هناك من الصخور الصماء أو عديمة النفاذية قد يكون لها دور في تخفيض مستوى الأسعار، وذلك لسبب بسيط هو أن الهبوط المفاجئ أكبر من أن يُنسب إلى إضافات قليلة. حتى ارتفاع منسوب المخزونات الاستراتيجية الأمريكية الذي كان سائداً في الآونة الأخيرة ليس له تأثير يُذكر في معدل الأسعار.
إذاً، فلا بُدَّ من أن هناك عاملا قويا لعب دوراً بارزاً في جذب السعر من أعلى مستوى إلى الوضع الحالي، أو إلى ما دون 90 دولاراً. ولا يزال الموقف هشاّ والسعر قابلا للنزول إلى مستوى أدنى. بل إن هناك من المحللين منْ يعتقدون أن الأسعار ستُواصل هبوطها إلى ما دون 30 دولارا للبرميل خلال الأشهر القادمة، وهو ما لا يمكن له أن يحدث تحت الظروف الدولية الحالية. فأول رد فعل عندما يتناوش السعر 70 دولاراً هو توقف الإنتاج من الصخور النفطية المُكلِفة، وهو ما يُمثل إنتاج أكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا. وعندما نستعرض إنتاج دول ''أوبك'' خلال الـ 18 شهراً الماضية، يبدو لنا بوضوح أن هناك زيادة في الإنتاج خلال الأشهر الأخيرة من هذه الفترة الزمنية، قد تكون المسبب الرئيس لنزول الأسعار.
وتنزيل أسعار النفط وبهذه القوة، وهو المصدر الأول للدخل لمعظم الدول المنتجة، أمر يدعو إلى الاستغراب، ونتمنى ألا يطول أمده. ولا نظن على الإطلاق أن انهيار الأسعار يخدم مصالح الدول المستهلكة، مثل ما أنه وبقدر أكبر يضر بمصالح الدول المنتجة. لأن نزول دخل المنتجين سيحد على المديين القريب والمتوسط من فرص الاستثمار في مصادر الطاقة، وهو ما قد ينعكس سلباً على مقدرتهم على الحفاظ على مستوى الإنتاج. وقد كان إنتاج منظمة ''أوبك'' إلى ما قبل كانون الأول (ديسمبر) 2011 قريبا من 30 مليونا و300 ألف برميل في اليوم. وأصبح الآن في حدود 32 مليونا. وهذا على الأغلب هو ما دفع بالأسعار إلى الهبوط السريع وبهذا الفارق الكبير، عما كانت عليه منذ عدة أشهر. ومهما كانت المبررات، فإن نزولاً بما يزيد على 35 دولاراً للبرميل الواحد دفعة واحدة يسبب ضررا فادحاً للمنتجين الذين يعتمدون إلى حد كبير على دخل هذا المصدر الناضب. واليوم لا تزال بعض الدول المنتجة، خصوصاً داخل منظمة ''أوبك''، تمتلك فائضاً كبيراً تستطيع بواسطته التحكم في مستوى الأسعار، صعوداً أو هبوطاً، لكن لفترة قد لا تكون طويلة. وسيأتي الوقت الذي تفقد فيه السوق النفطية أي رادع لانطلاق الأسعار مهما بلغت من الارتفاع. والعبرة ستكون بوجود البدائل المناسبة من عدمها، وهو ما سيقرر مصير نمو الاقتصاد العالمي الذي بُنِيَ أساسا على توافر مصادر الطاقة الرخيصة.
نحن لم نستوعب بعد حقيقة ماثلة أمام أعيننا، وهي أن النفط الرخيص، أو ما يطلق عليه النفط التقليدي، قد وصل إلى مرحلة ''النضج'' بدلا من التعريف التقليدي ''النضوب''، الذي قد لا ترتاح بعض الجهات إلى سماعه. وهو ما يعني أنه لن يكون بإمكانه أن يفي بجميع متطلبات المجتمع الدولي من الطاقة التي تزداد يوماً بعد يوم، ودون روافد ثابتة. وإذا استثنينا في الوقت الحاضر المصادر المتجددة التي لا تزال مشاريعها في مهدها، فإن الأمل مبني على المصادر غير التقليدية، رغم ارتفاع تكلفة إنتاجها وصعوبة مناولتها وتأثير عملياتها في البيئة. وكمية إنتاجها لا يقارن بإنتاج نفط الشرق الأوسط المتدفق. ولذلك، فحتى هذه المصادر غير التقليدية، التي تبني عليها بعض الدول آمالاً في أن تسد النقص المتوقع في الإمدادات النفطية، لن تكون كافية لتعويض النضوب الجزئي من النفط التقليدي الرخيص المتزامن مع النمو الطبيعي للطلب على مصادر الطاقة. وعندما تتقلص مقدرة المنتجين على رفع الإنتاج تلبية لزيادة الطلب، وهو ما نتوقع حدوثه بعد بضع سنوات، فإن ذلك سيمثل أول حدث من نوعه في التاريخ الحديث، أو ما نسميه بعصر النفط. وعلى المجتمع الدولي حينئذ أن يتحمل مسؤولية نقص إمدادات الطاقة، لعدم اهتمامه بالتحولات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم بالنسبة لمصادر الطاقة النفطية، وتقاعسه عن الاهتمام بتنمية المصادر البديلة. ودعك من الذين يبلغ بهم التفاؤل حداًّ يظنون معه ألا نهاية للإمدادات النفطية الرخيصة من النوع التقليدي.