دور التربية والتعليم في إنجاز «السعودة»
يبدو لي أن سلسلة المقالات عن مفهوم "السعودة" كان لها أثر يفوق كل ما ظهر على صفحات هذا العمود حتى الآن. وقد تسلمت عددا لا بأس به من الرسائل الشخصية من قرائي الكرام يطلب فيها البعض إضافات محددة، ويشير الآخر إلى هفوات ويطلب مني تجاوزها في مقال لاحق.
وما شدني، لا بل حثني على الاستمرار في الكتابة عن هذا الموضوع الحساس وإشباعه نقاشا، كان رد بعض القراء من خلال إرسال أبحاث ودرسات رصينة أجروها عن هذا الموضوع. هذا مؤشر إيجابي، فمن ناحية يبرهن أن أبناء بلد الحرمين وبناته من العلم والمعرفة ما يمكنهم ليس فقط من تشخيص ظواهر محددة، بل دراستها وتمحيصها وتقديم اقتراحات لمعالجتها. هذا أمر يسعدني كثيرا، العلم والمعرفة سراج ونور ولولاهما لأطبق الظلام علينا.
ومن ناحية أخرى، يظهر أن القراء يهمهم ما ينشر في هذا العمود ويتفاعلون معه ومن خلاله وخلال الدور المؤثر الذي تلعبه صحيفتنا "الاقتصادية" الغراء، يتوقعون اطلاع المسؤولين عليه عسى ولعل أن يروا فيه ما يفيد مسيرتهم الوظيفية، التي وجدت أساسا لتقديم أفضل خدمة ممكنة لمواطنيهم.
وموضوعنا اليوم عن دور التربية والتعليم في سعودة مجتمع بلد الحرمين، ولا داعي للحديث عن أهمية التربية ليس فقط في موضوع "السعودة"، بل في شؤون الحياة المختلفة.
"السعودة" أكثر من وضع عامل سعودي مكان عامل أجنبي من خلال عملية إحصائية ميكانيكية. قبل كل شيء يجب أن تحدث ضمن مفهوم "التوطين" أي تطويع العلم والمعرفة أو بالأحرى سعودته.
قبل أيام أتاني بحث للتقييم، أي لبيان رأيي كمختص إن كان يستحق النشر في مجلة علمية راقية أم لا. كان الموضوع يدور حول توطين التربية والتعليم، وفيه يستشهد الباحث بمقولة للرئيس الأمريكي توماس جيفرسن قالها وطبقها وهو يحاول رسم خريطة طريق لنهوض أمريكا قبل أكثر من 200 سنة.
في هذه الوثيقة المهمة يدعو جيفرسن علانية إلى عدم إرسال الطلبة الأمريكيين إلى بريطانيا العظمى (عندئذ) لغرض الدراسة والتعليم، ويطلب من المؤسسات التعليمية توفير مناخ يقدم تلك الدراسات في الداخل ويبرهن لهم فوائد توطين الدراسات العليا في الفروع كافة، ويطلب وضع حد ونهاية لإرسال الطلبة الأمريكيين للدراسة في بريطانيا، لأنه يخشى أن الدراسة في الخارج تضعف المواطنة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تلقين المتلقي مفاهيم وخصوصيات البلد الذي تلقى معرفته فيه.
شخصيا أقف على الحياد بخصوص هذا الموقف الذي لم أكن على دراية به قبل قراءتي المقال، وقد أعود إليه لاحقاً. لكن يبرهن الباحث أن موقف جيفرسن هذا كان واحدا من الأسباب الرئيسية لنهوض المارد الأمريكي وتربعه على عرش العلم والمعرفة في العالم حتى هذا اليوم.
وهذا ما يحدث في الدول الإسكندنافية، حيث إننا قلما نشاهد عالما أو أستاذا جامعيا حصل على شهاداته خارج بلده. في جامعتنا هناك عدد قليل جدا (أربعة أساتذة واثنان منهم أجانب) يحمل شهادات من أمريكا أو بريطانيا والبقية حصلوا على تعليمهم وشهاداتهم داخل البلد.
وليس هناك أي تميز في المكانة والدرجة الوظيفية أو المستحقات المالية بين شخص حصل على شهادته داخل البلد أو الشخص الذي حصل على شهادته من الخارج وإن كان أجنبيا. الكفاءة وما يقدمه الشخص من خدمة هما المعيار.
كيف يتم توطين التربية والتعليم في المراحل المتقدمة؟ ليكن هذا موضوع الأسبوع المقبل.
ورمضانكم مبارك وإلى اللقاء.