استراتيجية البنك السيئ
تناولنا في المقال السابق بعنوان ''إعادة رسملة المصارف'' أحد الحلول للتعامل مع مشكلة المصارف المضطربة، وذلك من خلال قيام الحكومة بضخ الأموال في البنك المضطرب لتعويض البنك عن الخسارة الرأسمالية التي تحدث بسبب الأصول المسمومة، ومن ثم تمكين البنك من الاستمرار في نشاطه المصرفي الاعتيادي. الحل الثاني أفرزته التجارب الدولية في مجال التعامل مع البنوك المضطربة يطلق عليه حل البنك السيئ Bad bank.
فقد تعرضت السويد في أوائل التسعينيات لواحدة من أعنف الأزمات المصرفية بسبب فشل عدد كبير من المقترضين في مجال الرهن العقاري في خدمة ديونهم، ونتيجة ذلك أصبح عدد كبير من بنوكها على حافة الإفلاس، وللتعامل مع المشكلة قامت الحكومة بالتأمين على أصول البنوك وإعادة رسملة بعضها، كما قامت بتأمين بنكين من البنوك العاملة في السويد هما بنكا Nordbanken وGota. كانت القوائم المالية للبنكين بها قدر كبير من القروض المشكوك فيها (أصول مسمومة) بلغت نحو 40 في المائة، وللتعامل مع المشكلة قامت الحكومة السويدية بتطبيق حل غير تقليدي، حيث قامت بإنشاء بنك جديد لكل بنك من هذين البنكين ثم قامت بفصل أصول البنكين وفقا لدرجة جودتها، وقامت بتحويل القروض الرديئة لهذين البنكين إلى القوائم المالية للبنكين الجديدين. بهذا الحل تحول البنكان الأصليان إلى أربعة بنوك، اثنان منهما قوائمها المالية نظيفة وأصولهما مرتفعة الجودة، والاثنان الآخران أصولهما رديئة ومشكوك في إمكانية تحصيل قيمتها. أطلق لاحقا على البنكين الأولين البنكين الجيدين، بينما أطلق على البنكين الجديدين البنكين السيئين. بعد عملية الفصل قامت الحكومة بإعادة رسملة البنكين الجيدين لكي يستكملا أنشتطهما المصرفية الاعتيادية، بينما يتفرغ البنكان السيئان للتعامل مع الأصول الرديئة.
أصبح هذا الحل بعد ذلك يعرف بحل البنك السيئ، باعتباره أحد الحلول التي يتم اقتراحها للتعامل مع أزمات القطاع المصرفي في العالم. بعد تعقد أوضاع قطاعها المصرفي يتزايد الحديث حاليا عن حل البنك السيئ كأحد الحلول المطروحة للتعامل مع أزمة القطاع المصرفي الإسباني، رغم أن الحكومة الإسبانية رفضت هذا الحل مسبقا.
لتوضيح ذلك افرض أن بنكا إسبانيا لديه أصول بمليار دولار، والتزاماته أيضا مليار دولار من بينها 100 مليون دولار رأسمال البنك. افرض أن من بين أصول هذا البنك هناك 500 مليون دولار عبارة عن رهون عقارية في سوق العقار الإسباني الذي يعاني كارثة حاليا تتمثل في تراجع أسعار المساكن على نحو كبير فضلا عن عدم قدرة الكثير من المقترضين في إطار عقود الرهون العقارية على سداد التزاماتهم. افرض أن من بين هذه الرهون العقارية هناك نحو 250 مليون دولار عبارة عن قروض مشكوك في تحصيلها أو ما يمكن أن نطلق عليه أصول مسمومة، وأن هذه الأصول لا تتجاوز قيمتها السوقية 40 في المائة من القيمة الدفترية لها.
لاحظ أنه من الناحية العملية أصبح هذا البنك لا يملك رأسمال إذا ما اعتبرنا أن هذه الأصول المسمومة تمثل خسائر محتملة للبنك، ولأن البنك لا يستطيع أن يقترض من بنك آخر كما أنه لا يستطيع بيع هذه الأصول لأنه ربما لا يجد مشتريا لها، وعلى فرض أنه وجد مشتريا لهذه الأصول فإنه لا بد أن يتنازل عن 40 في المائة من قيمتها خصما Haircut في مقابل بيعها، وعندما يقوم البنك بذلك فإن الخسارة التي تم خصمها من قيمة الأصول المسمومة لا بد أن تخصم من صافي رأسمال البنك، لاحظ أن الخسارة في هذه الحالة تساوي قيمة رأسمال البنك، وبالتالي فإن هذا البنك لا بد أن يعلن إفلاسه. هذه الحالة التي عرضناها تمثل تقريبا الصورة العامة للبنوك الإسبانية، وعلى هذا المنوال فإن عددا كبيرا من البنوك الإسبانية لا بد أن يعلن إفلاسه، الأمر الذي يمهد لانهيار القطاع المالي الإسباني. كيف إذن يمكن حل المشكلة من خلال استراتيجية البنك السيئ؟
تتم عملية إنشاء البنك السيئ بطريقتين؛ الطريقة الأولى وتتم بتقسيم أصول كل بنك مضطرب يواجه مشكلة أصول المسمومة إلى بنكين، البنك الأولى وتجمع فيه كل أصول البنك الجيدة (بنك جيد) وهو البنك الذي سيتمكن نتيجة تنظيف قوائمه المالية من الاستمرار والاقتراض والإقراض وممارسة أنشطته المصرفية الاعتيادية، والبنك الثاني وتجمع فيه كل أصول البنك السيئة (بنك سيئ)، وهو البنك الذي تحتوي قائمة أصوله على كافة الأصول المسمومة للبنك. لاحظ أنه عندما يكون الأصل مسموما فإن هذا لا يعني أن الأصل منعدم القيمة، أو أنه لن يتم استرداد قيمته على الإطلاق، فالكثير من هذه الأصول يمكن استرداد قيمتها، ولكن كل ما يحتاج إليه البنك هو الوقت، حتى يمكن استعادة القيمة الحقيقية للأصل، وهذه هي المشكلة في قطاع المال، الوقت له تكلفة، لذلك يتم التخلص من الأصول المسمومة بأي ثمن، وهذا هو مصدر الخطورة. البنك السيئ يقدم الحل لهذه المشكلة، لأن لديه الوقت الكافي للتعامل مع هذه الأصول ومحاولة استردادها بقيمتها أو بأفضل قيمة لها بعد التخلص من قيد الوقت.
الطريقة الثانية ويتم بمقتضاها إنشاء بنك مستقل تماما عن البنوك العاملة في الدولة، أو بنك مجمع، ليكون بمثابة مقلب للقمامة، حيث يتم تحويل كل أصول البنوك المسمومة إلى هذا البنك ليتم التعامل معها بشكل مستقل. من أوضح الأمثلة على البنك المجمع حالة إيرلندا، حيث تم إنشاء هذا البنك تحت اسم الوكالة الوطنية لإدارة الأصولNational Asset Management Agency، فقد تراجعت أسعار العقارات في إيرلندا بنحو 60 في المائة، ونتيجة ذلك اندلعت أزمة البنوك الإيرلندية، وباستخدام المساعدات الحكومية تم استخدام نحو 32 مليار يورو في إزالة نحو 47 مليار يورو من الأصول المسمومة من القوائم المالية للبنوك الإيرلندية وتحويلها إلى الوكالة، ومن ثم استعادة الثقة بالاقتصاد الإيرلندي وقطاعه المصرفي. نتيجة عملية تحويل الأصول المسمومة للوكالة تحولت الوكالة إلى أكبر مالك للأصول العقارية في إيرلندا. هذه الأموال التي قدمتها الحكومة للوكالة تعد بمنزلة قرض، ويجب على الوكالة أن تقوم بإعادة سدادها بحلول عام 2020، وذلك من خلال عمليات بيع رهونات هذه الأصول المسمومة (العقارات)، بالطبع إذا تحسنت الأوضاع على المستوى الأوروبي فإن فرصة إعادة سداد هذا القرض تكون مرتفعة، غير أنه مع تعقد الأوضاع فإن عملية إعادة سداد القرض الحكومي تصبح مسألة صعبة. على كل حال، لقد تمكنت الوكالة خلال العامين ونصف الماضيين من إعادة سداد ثمانية مليارات يورو نتيجة عمليات بيع العقارات والديون المحولة إليها، وتواجه الوكالة حاليا مشكلة تسييل هذه الأصول المسمومة بأسعار مناسبة نتيجة الأزمة الأوروبية التي تجعل سوق العقارات يسير على نحو غير موائم بسبب ضعف الثقة حول اتجاهات الاقتصاد الأوروبي، والتي تحول دون دخول المستثمرين الأجانب للقطاع العقاري الأوروبي.
في كلتا الحالتين يتم التخلص من الأصول المسمومة في القوائم المالية للبنوك ليتحول البنك بعد ذلك إلى بنك جيد، وعندما يتم فصل الأصول تصبح صورة أصول البنك أنصع، فطالما أن الأصول مخلوطة سيظل المستثمرون غير متأكدين من الحالة المالية للبنك وهو ما يشل قدرته على الاقتراض أو تعبئة مصادره الرأسمالية ومن ثم قدرته على الإقراض. وبالتالي يمكن للبنك بعد ذلك أن يمارس عمله بشكل طبيعي وتزول عنه مخاطر الإفلاس.
أخيرا فإنه رغم بساطة الفكرة، إلا أن عملية التطبيق تواجه الكثير من التعقيدات، وأهم هذه التعقيدات هي أنه مع فصل الأصول بين سيئ وجيد، كيف سيتم فصل التزامات البنك (عدا رأس المال) بين البنكين نتيجة ذلك. من ناحية أخرى فإن أهم مشكلة تصاحب هذا الحل هي أن أموال دافعي الضرائب تظل رهينة للبنك السيئ حتى يتم استرداد قيمة هذه الأصول المسمومة. بالطبع من المحتمل ألا تعود القيمة السوقية للأصول المسمومة إلى مستوياتها قبل الأزمة بسرعة، أو قد تأخذ وقتا طويلا قبل أن تصل إلى ذلك، أو ربما لا تعود إلى مستوياتها قبل الأزمة على الإطلاق.