إعادة رسملة المصارف
لم يحدث أن شهد العالم عمليات إعادة رسملة للمصارف كتلك التي حدثت في الأزمة المالية الحالية، فلقد كان من المفترض أن يشهد العالم سقوط عشرات الآلاف من المصارف والمؤسسات المالية في خضم هذه الأزمة. بصفة خاصة كان من الممكن أن تشهد الولايات المتحدة إفلاس آلاف المصارف مثلما حدث أثناء الكساد العالمي الكبير، حيث أفلس نحو 9000 مصرف ومؤسسة مالية خلال الفترة من 1929–1933، وفي عام 1933 وحده، أفلس نحو 4 آلاف مصرف ومؤسسة مالية نتيجة الأزمة، وهو ما دعا الحكومة الأمريكية إلى إنشاء المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع FDIC. شهدت الثمانينيات أيضا عمليات إفلاس عنيفة للمصارف في الولايات المتحدة بلغت أوجها عام 1989 حيث أعلن إفلاس 534 مصرفا.
عندما انطلقت الأزمة المالية العالمية الحالية كان من بين حزم التحفيز التي قامت بها معظم دول العالم تخصيص مئات المليارات من الدولارات لإعادة رسملة المصارف، حيث طبقت الدول الصناعية بعد عام 2008 برامج مكثفة لإعادة رسملة جهازها المصرفي بما فيها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيرلندا، وسويسرا، واليابان وغيرها. فقد خصصت الولايات المتحدة نحو 700 مليار دولار ضمن برنامج شراء الأصول المضطربة TARP، وبتطبيق البرنامج تم توجيه الاهتمام لبرنامج مشتريات رأس المال لإنقاذ القطاع المصرفي، وذلك بهدف زيادة رسملة المصارف بصورة مباشرة وغير مباشرة لتعزيز الثقة في هذه المصارف. على سبيل المثال قامت الحكومة الأمريكية في إطار برنامج المشتريات الرأسمالية بضخ أكثر من 200 مليار دولار في مؤسساتها المالية، وقد نجح هذا البرنامج في الحد من عمليات الإفلاس على نحو كبير، فلم تتعد حالات الإفلاس بين المصارف الأمريكية في أحلك السنوات 157 مصرفا عام 2010، من بين نحو 8300 مصرف تعمل في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس نجاح البرنامج في تحقيق مستهدفاته في الحد من عمليات إفلاس المصارف. كذلك من بين برامج إعادة الرسملة الرئيسة في العالم ما قامت به اليابان خلال أزمتها في التسعينيات بتخصيص 30 تريليون ين لتثبيت قطاعها المالي، منها 13 تريليونا لإعادة رسملة المصارف.
منذ أيام عدة أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا نصح فيه إسبانيا بسرعة إعادة رسملة مصارفها، وذلك باستخدام قرض الإنقاذ الذي أقره الاتحاد الأوروبي لمساعدة القطاع المالي الإسباني البالغ 100 مليار يورو، من خلال ضح المزيد من رأس المال في مصارفها المضطربة، وذلك لمواجهة تزايد نسب الأصول المسمومة في القوائم المالية لهذه المصارف. حاليا تقوم إيطاليا أيضا بالموافقة على قانون يساعد على دعم رؤوس أموال المصارف، والذي بمقتضاه تستعد المصارف لبيع سنداتها للحكومة لرفع رسملتها، على سبيل المثال يستعد حاليا مصرف Siena لبيع 1.3 مليار يورو من السندات للحكومة. كذلك تستعد اليونان لضخ 18 مليار يورو في مصارفها. من الواضح إذن أن كثيرا من دول أوروبا تستعد اليوم بدرجة أو أخرى لمواجهة هذه الاحتمالات، فما هي رسملة المصارف؟ وما هي أهميتها؟
عملية إعادة الرسملة هي عملية تتضمن تغييرا جوهريا في أسلوب تمويل المصارف، من الاعتماد على إصدار المزيد من الأسهم أو بيع السندات إلى مصادر التمويل الخاصة، إلى التمويل من خلال ضخ الحكومة للأموال في المصرف، ويتم ذلك إما بصورة مباشرة من خلال قيام المصرف بإصدار أسهم تشتريها الحكومة، غالبا ما تكون أسهما تفضيلية قد تؤدي - في بعض الأحيان - إلى أن تصبح الحكومة هي صاحب أكبر حصة رأسمالية في المصرف، وينظر إلى هذه العملية على أنها أحد أشكال عمليات تأميم المصارف. على سبيل المثال قامت الحكومة البريطانية بضخ 82 مليار يورو عامي 2008-2009، وترتب على عمليات إعادة رسملة المصارف البريطانية أن أصبحت الحكومة هي المساهم الرئيس في رويال بنك أوف سكوتلاند حيث تملك 82 في المائة من رأسماله، و75 في المائة من رأس مال أنجلو أيرش بنك، و40 في المائة من رأس مال مجموعة بنك اللويدز، كما يمكن أن تتم عملية إعادة الرسملة بصورة غير مباشرة وذلك بأن تقوم المصارف بإصدار سندات طويلة الأجل تشتريها الحكومة.
تستهدف برامج ضخ الأموال الحكومية في المصارف تخفيض مخاطر المؤسسات المالية التي يتم ضخ الأموال فيها، ومن ثم زيادة قدرتها على الاستمرار ومنح الائتمان، ورفع قدرة المصارف على مواجهة مخاطر الإفلاس، ويتعرض المصرف لمخاطر الإفلاس نتيجة الخلل الذي يحدث في ميزانيته، حيث تتكون ميزانية المصرف من جانبين: الالتزامات، والتي تمثل مصادر الأموال التي يحصل عليها المصرف وأهمها بالطبع المودعات والديون ورأس المال، والجانب الآخر وهو الأصول، والذي يمثل الطريقة التي يوظف بها المصرف الأموال التي يحصل عليها وأهمها القروض والسندات الحكومية. عندما يتعرض المصرف لأزمة فإن هذا الهيكل يختل في صورة تزايد الالتزامات عن الأصول نتيجة خسارة المصرف جانبا من أصوله، هذه الخسارة لا بد أن تخصم من صافي رأس مال المصرف، وعندما يخسر المصرف نسبة كبيرة من رأس ماله يصبح هذا المصرف متعثرا، ولا بد أن يعلن إفلاسه، ولكن لماذا يتعرض المصرف أكثر من غيره لمثل هذه المخاطر؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نتعمق قليلا في طبيعة عمل المصارف.
المشكلة الأساسية التي تواجهها المصارف هي أن مصادر أموالها (عدا رأس المال)، غالبا ما تكون قصيرة الأجل، أو قابلة للاسترداد في أي وقت، بينما تكون عملية توظيف هذه الأموال ذات طبيعة طويلة الأجل نسبيا، وعندما يواجه المصرف طلبات من عملائه بسحب مودعاتهم يواجه المصرف مشكلة تدبير المال اللازم لذلك، وهو ما يضطره إلى اللجوء إلى خيارات مختلفة لتدبير السيولة، ومن المعلوم أن كافة هذه الخيارات مكلفة بالنسبة للمصرف، وقد تكون التكلفة في بعض الأحوال كبيرة، وهو ما يوقع المصرف في مشكلة. من ناحية أخرى فإن سوء تقدير المصرف لطبيعة الأصول التي يستثمر فيها أو تعرض هذه الأصول لمخاطر نظامية، كتوقف المقترضين من المصرف عن خدمة ديونهم، مثال ذلك التوقف عن سداد أقساط الرهون العقارية، أو خسارة المصرف لاستثماراته في بعض الأصول مثل التزامات الديون المرهونة CDOs، وهي أصول ذات عوائد مرتفعة، ولكنها في الوقت ذاته مخاطر مرتفعة أيضا لصعوبة تقييم المخاطر المحيطة بالأصول المستخدمة في ضمان هذه الالتزامات، أو تراجع أسعار الأصول المستخدمة كرهون للقروض التي قدمها المصرف، مثلما حدث في أزمة قطاع المساكن في الولايات المتحدة، أو ما يحدث حاليا في إسبانيا، وهو ما يؤدي إلى تراجع قيمة الأصول التي يملكها المصرف. كل هذه الأسباب سوف تؤدي إلى نتيجة واحدة هي تراجع صافي رأس مال المصرف.
المأساة الحقيقية التي سيواجهها المصرف الذي يواجه مثل هذه الظروف هي أنه لن يجد من هو مستعد لإقراضه لتحسين وضع ميزانيته، حيث تصبح المصارف أكثر حساسية نحو إقراض المصارف الأخرى التي تواجه أي شكل من أشكال نقص السيولة، وتنخفض الثقة بشكل كبير في المصرف وتنحسر بالتالي الأموال المتاحة له للاقتراض. في ظل هذه الظروف لا بد أن تتم استعادة الثقة في المصرف، وإلا فإن البديل سوف يكون الإفلاس، وتؤدي عملية إعادة رسملة المصرف إلى استعادة الثقة بصورة كبيرة في المصرف وترفع قدرته على استكمال أعماله، حيث ستتوقف عمليات سحب المودعات من المصرف، وسيتمكن المصرف من جذب المزيد من المودعات، كما سيجد المصرف من يقبل أن يقرضه سواء من المصارف أو المؤسسات المالية الأخرى. وغالبا ما تتم عملية إعادة رسملة المصارف بعد فرض شروط محددة عليها مثل الحد من المكافآت التي تدفع للإدارات، أو فرض شروط محددة حول عمليات الإقراض التي تقوم بها.
ولكن لماذا يجب أن تتم إعادة رسملة المصارف؟ الإجابة ببساطة هي لأن عملية إفلاس المصارف سوف تحدث ذعرا ماليا وارتباكا في النظام المالي يمتد أثره بشكل كبير نحو الأسواق، لذلك لا بد من استعادة الثقة في النظام المالي من خلال سرعة إنقاد المصارف المتعثرة وتعويضها عن الأصول المسمومة التي يتم إلغاؤها من قوائمها المالية، حتى لا يضعف الأساس الرأسمالي للمصارف، ويترتب على ضعف الوضع الرأسمالي للمصارف عدد من النتائج التي لها آثار ارتدادية على أسواق المال ومن ثم الاقتصاد الحقيقي.