الليبور يهز صناعة المال في لندن

أوروبا والاقتصاد العالمي بوجه عام ليسا في حاجة إلى المزيد مما يقوض ثقة المستثمرين ويؤثر في وتيرة النمو الاقتصادي المتراجع أصلاً إلى أدنى مستوياته. لكن فضيحة الليبور الأخيرة، مثلت هزة كبيرة للثقة التي بنى عليها المستثمرون قراراتهم الاستثمارية لعقود من الزمن، دون أن يساورهم أدنى شك في إمكانية استغلال هذه الثقة التي منحها المستثمرون للمؤسسات المالية الكبرى وتراخي جهات الإشراف والتشريع المالي المسؤولة عن الرقابة والمحافظة على متانة وصيانة هذه الثقة. هذه القضية ـــ التي تعد أحد أكثر القضايا المالية تعقيداً من حيث انتشار تأثيرها في العالم ــــ ستشغل المحاكم فترة طويلة من الزمن، لتسوية الدعاوى من الأطراف المتأثرة بذلك، وستترك آثاراً كبيرة في علاقات المؤسسات المالية بالجهات الحكومية الإشرافية، وفي الوضع المتميز الذي تتمتع به كبرى المراكز المالية العالمية كلندن ونيويورك وغيرها.
لن أدخل في محاولة لشرح مفهوم الليبور، حيث أجاد وأفاض في ذلك زميلي الدكتور محمد السقا، في ثلاث مقالات متتالية، وأنصح كل من له رغبة في الاستزادة في هذا الموضوع الرجوع إلى هذه المقالات، ولكن سأتطرق إلى بعض التأثيرات والتبعات لهذه الفضيحة المالية خصوصاً على وضع لندن كأهم المراكز المالية في العالم. تعتبر لندن المركز المالي الرئيس في العالم، حيث تتخذ منها كبرى المصارف العالمية مقراً لعملياتها في العالم، وقد استطاعت أن تكون محط جذب لهذه المصارف من خلال التسهيلات التنظيمية ومن خلال انخفاض تكلفة عملياتها خصوصاً من جانب التكاليف الضريبية. ويحقق ذلك للندن دخولاً عالية ومكاناً مرموقاً ومؤثراً في الاقتصاد العالمي، من حيث قدرتها على حشد وتوجيه ومتابعة عمليات التمويل المتجهة من الشرق إلى الغرب، والعكس. فلندن تمثل المركز الرئيس لتداول العملات في العالم (40 في المائة) ولتداول المشتقات المالية (46 في المائة)، وتحقق من ذلك 8 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، كما يوظف هذا القطاع عدداً كبيراً من العاملين في لندن، مما يمثل داعماً رئيساً لحركة ونمو الاقتصاد البريطاني.
المدينة The City كما يحلو للبعض تسميتها، تواجه تحدياً وتهديداً كبيرين لإمكانية استمرار هذا الدور منذ انطلاق شرارة الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وما تبع ذلك من تداعيات كان آخرها الأزمة التي تضرب حالياً منطقة اليورو. هذه الأحداث المتتالية زادت بشكل كبير من المخاوف والشكوك حول دور المؤسسات المالية الكبرى في إطلاق شرارة الأزمة وتحميل الأفراد بمسؤولية وتكاليف التعامل معها. ومما فاقم من هذا الوضع، أنه في حين كان الأفراد دافعو الضرائب يتحملون هذه التكاليف، كان التنفيذيون في كبرى المؤسسات المالية مستمرين في الحصول على مكافآت ضخمة جداً، مما سبب حرجاً كبيراً للحكومات. هنا زادت المطالب بشكل كبير بضرورة مساهمة هذه المؤسسات في تكاليف التعامل مع الأزمة المالية، وزاد من وتيرة هذه الضغوط تبني الدول الرئيسة في منطقة اليورو لهذا التوجه، من خلال فرض ضريبة على العمليات المالية. هذه الضريبة إن تم فرضها، يتوقع أن تؤثر بشكل كبير في اقتصاد لندن على جاذبيتها للمؤسسات المالية العالمية، مما سيترك آثاراً كبيرة في الاقتصاد البريطاني.
الحدث الأخير، أو فضيحة الليبور، قد يؤدي إلى دق المسمار الأول، أو قد يكون الأخير في نعش صناعة المال في لندن، أو في علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. الإرث الكبير الذي صنعته لندن في عالم المال والأعمال قد يتراجع بسرعة، بسبب تراجع الثقة الكبيرة التي كانت القاعدة الأساسية التي بنيت عليها هذه الصناعة، والتي جعلت لندن تحدد تكلفة التمويل لما قيمته تقريباً 800 تريليون من الدولارات في العالم. الفضيحة التي اتخذت جانبين، الأول وهو الأسوأ من الناحية الأخلاقية المتضمن تلاعب عدد من المتداولين في باركليز ـــ وهو المصرف البريطاني الوحيد بين كبرى المؤسسات المالية العالمية العاملة في لندن ـــ في تحديد سعر الليبور لتحقيق مكاسب مادية آنية على المدى القصير. والجانب الثاني، ويتعلق بعلاقة بنك إنجلترا في تشجيع هذه المؤسسات على تخفيض متعمد في سعر الليبور بما لا يعكس تكلفة الاقتراض لهذه المصرف على أرض الواقع. والأخير في رأيي هو الأسوأ لأنه سيقوض ــــ إن ثبتت صحته ــــ الثقة بصلاحية الليبور كمرجعية لتكاليف الاقتراض في العالم، وسيؤدي إلى اللجوء إلى مرجعية بديلة، وهو ما سيؤثر بشكل كبير في لندن كمركز ثقل مالي عالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي