هل نشهد موجة ثالثة من التيسير الكمي؟
التيسير الكمي Quantitative Easing هو إحدى أدوات السياسة النقدية غير التقليدية التي شاعت تسميتها أثناء الأزمة بسبب لجوء العديد من البنوك المركزية في العالم وعلى رأسها ''الاحتياطي الفيدرالي'' إلى استخدام هذه الأداة، بعد أن فشلت أدوات السياسة النقدية التقليدية في إحداث الأثر المتوقع منها في دفع مستويات النشاط الاقتصادي، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري لقطاع الأعمال الخاص.
يهدف التيسير الكمي إلى التأثير في هيكل ميزانيات المصارف التجارية بزيادة مستويات السيولة لديها، وتحفيز المصارف نتيجة لذلك على الإقراض بصورة أكبر أو الاستثمار في سندات الشركات، وتتمثل آلية التيسير الكمي في أن البنك المركزي يقوم بشراء أصول مالية، غالبا السندات الحكومية من المصارف. يترتب على شراء البنك المركزي هذه السندات أثران، الأول ارتفاع أسعارها السوقية وتراجع معدلات الفائدة على السندات نتيجة لذلك، وهو ما يشجع المصارف على التوجه نحو أدوات أخرى أكثر عائدا مثل سندات الشركات، أو إقراض الأفراد، الآخر هو أنه كي يقوم البنك المركزي بشراء هذه السندات لا بد أن يقوم بإصدار المزيد من الاحتياطيات لمصلحة المصارف (في صورة قيود إلكترونية)، بالطبع مثل هذه الخطوة تعادل عملية إصدار المزيد من النقود، ويترتب على ذلك تزايد كمية السيولة المتاحة لدى المؤسسات المالية، وهو ما يفترض أن يشجع المصارف على الإقراض لاستثمار فوائض السيولة المتجمعة لديها نتيجة عمليات التيسير الكمي.
في الوقت الحالي يواجه التيسير الكمي الكثير من أوجه النقد أهمها بالطبع أنه يمكن أن يتسبب في رفع معدلات التضخم أو ارتفاع التوقعات التضخمية، كما أن هناك احتمالا أن تكون استجابة الاقتصاد لتراجع معدلات العائد على الأوراق المالية ضعيفة، بصفة خاصة عندما تكون معدلات الفائدة منخفضة أساسا مثلما هو الوضع حاليا. كذلك ينظر إلى خفض معدلات العائد على السندات في أوقات الكساد على أنه شرط غير كاف لتشجيع المصارف وبيوت الاستثمار على تحمل المخاطرة في إقراض قطاع الأعمال الخاص، حيث تفضل المؤسسات المالية في ظل هذه الأوضاع اعتبارات الأمان والسيولة أكثر من اعتبارات الربحية.
على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يتعافى من الأزمة، إلا أن النشاط الاقتصادي يتراجع بشكل عام خلال النصف الأول من هذا العام، حيث تراجع معدل نمو الناتج في الربع الأول من هذا العام، وكذلك تشير الشواهد إلى استمرار هذا التراجع في الربع الثاني، في الوقت الذي تشهد فيه سوق العمل تراجعا واضحا في معدلات فتح الوظائف الجديدة، ونتيجة لهذه المعدلات المتواضعة من الوظائف الجديدة يظل معدل البطالة مرتفعا ولا يتراجع. في ظل هذه الأوضاع من الطبيعي أن يزداد قلق المستهلك الأمريكي حول درجة الأمان الوظيفي واتجاهات مستوى الدخل في المستقبل، لذلك تشير التقارير حاليا إلى تراجع مستويات ثقة المستهلكين بصورة واضحة، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلبا على الإنفاق الاستهلاكي الخاص. كذلك يشهد الإنتاج الصناعي الأمريكي تراجعا في مستويات نموه في الأشهر الأخيرة وكذلك الإنفاق الاستثماري من جانب قطاع الأعمال، في الوقت الذي تشير فيه المسوحات المستقبلية إلى نوايا قطاع الأعمال حول مستويات الإنفاق الاستثماري المستقبلي إلا أن الإنفاق الاستثماري ربما يأخذ في التراجع في الأشهر المقبلة بسبب القلق حول تطورات الأوضاع في أوروبا.
النتيجة الطبيعية لكل هذا هي اتساع فجوة الناتج (الفرق بين الناتج الفعلي والناتج الطبيعي)، وهو ما يعني أن أحد الأهداف الرئيسة التي يسعى ''الاحتياطي الفيدرالي'' دائما إلى تحقيقها تبقى خارج نطاق السيطرة. باختصار شديد الوضع الاقتصادي الأمريكي أصبح مثيرا للقلق، خصوصا في هذه المرحلة، حيث لم تعد تفصل الرئيس الحالي باراك أوباما عن الانتخابات سوى أشهر قليلة، وربما يفقد خلالها فرصته في إعادة الانتخاب إذا ما استمر الأداء الاقتصادي الأمريكي على هذا النحو.
يوم الثلاثاء الماضي قدم بن برنانكي التقرير نصف السنوي عن السياسة النقدية أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، من وجهة نظر برنانكي فإن معدلات النمو المتوقعة في المستقبل القريب لن تساعد على إحداث الزيادات المطلوبة في الوظائف كي يمكن تخفيض معدل البطالة بصورة جوهرية، وستظل أوضاع سوق العمل محبطة بالنسبة للجميع، فوفقا للتوقعات المستقبلية لمعدل البطالة فإنه من الواضح أن هذا المعدل ربما لن يقل عن 7 في المائة بنهاية 2014، وأنه إذا ما استمرت السياسة النقدية بشكلها الحالي، وفي ظل الإجراءات الأخيرة التي اتخذها ''الاحتياطي الفيدرالي'' لتعديل هيكل تواريخ استحقاق محفظته من السندات، فإن الاقتصاد الأمريكي سيستمر في النمو لكن بمعدلات متواضعة في الفترة المقبلة، وسيترتب على ذلك استمرار أوضاع سوق العمل على نحو غير ملائم.
في ظل هذه الصورة القاتمة لبطء عملية استعادة النشاط الاقتصادي الأمريكي، يتزايد الحديث عن احتمال عودة ''الاحتياطي الفيدرالي'' لسياسات التيسير الكمي وضخ المزيد من الاحتياطيات في النظام المصرفي لتنشيط عمليات منح الائتمان ورفع معدلات النمو. ففي رده على تساؤلات أعضاء مجلس الشيوخ عن احتمالات أن يلجأ ''الاحتياطي الفيدرالي'' لتيسير كمي ثالث، لم ينف برنانكي الاحتمال، وأشار إلى أن هناك الكثير من الأدوات ما زالت في جعبة ''الاحتياطي الفيدرالي''، وأنه إذا ما استدعت الحاجة إلى اللجوء إلى التيسير الكمي فإن ''الاحتياطي الفيدرالي'' لن يتردد في ذلك، وأن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة FOMC ستناقش الأمر بصورة أكثر عمقا في اجتماعها القادم.
على المنوال نفسه أشار دينيس لوكهارت رئيس ''الاحتياطي الفيدرالي'' فرع أتلانتا في خطابه أمام المجلس الاقتصادي في ولاية الميسيسبي يوم 13/7 الماضي إلى أنه من الممكن أن يحدث تحول في اتجاه السياسة النقدية، ويتم اتخاذ إجراءات أخرى بصورة أكثر قوة للتحفيز النقدي كاستجابة للضعف الذي يعانيه الاقتصاد حاليا، وأشار لوكهارت إلى أنه وزملاءه في اللجنة الفيدرالية ربما يواجهون خيارات حرجة في الاجتماع القادم. غير أن هناك بعض المحاذير التي يشير إليها لوكهارت وأهمها أن حجم ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' قد تزايد بصورة كبيرة، حيث تبلغ ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' حاليا ثلاثة أضعاف مستوياتها قبل الأزمة في 2008، ما يعني أن عرض النقود يتجاوز حاليا المستويات الطبيعية له، وأن ''الاحتياطي الفيدرالي'' لا بد أن يقوم بخفض حجم ميزانيته لتعود إلى مستوياتها الطبيعية.
بالطبع عندما يتجاوز الأساس النقدي مستوياته الطبيعية فإن التوقعات التضخمية ترتفع، لكن ما تواجهه الولايات المتحدة حاليا ليس بالفعل مخاطر التضخم، إنما مخاطر الانكماش السعري بالدرجة الأولى، حيث تشير اتجاهات المستوى العام للأسعار، خصوصا في الأشهر الأخيرة، إلى أن التضخم يتحرك عند مستويات منخفضة للغاية، أو أن الأسعار لا تتغير على الإطلاق، ولذلك يرى البعض أنه على الرغم من اتساع حجم ميزانية ''الاحتياطي الفيدرالي'' فإن مخاطر التضخم ما زالت حتى الآن تحت السيطرة، وهو ما أكده بن برنانكي أكثر من مرة أنه عندما تبدأ مخاطر التضخم في الظهور، فإن ''الاحتياطي الفيدرالي''، باستخدام العديد من الأدوات التي أشرنا إليها أكثر من مرة هنا في ''الاقتصادية''، سيطبق استراتيجية الخروج وتعديل حجم ميزانيته.
باختصار هناك وجهات نظر ضد التيسير الكمي وتشكك في إمكانية أن ينجح في تحقيق المستهدفات منه، خاصة أن معدلات الفائدة أساسا منخفضة، وهناك فائض كبير في السيولة لدى المؤسسات المالية الأمريكية، على سبيل المثال يرى لوكهارت أن التيسير الكمي ليس الحل الأمثل للحالة الاقتصادية الحالية. إلا أن الحديث عن موجة قادمة من التيسير الكمي أخذ يتزايد اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ خطة التيسير الكمي2، وأن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ربما تقرر لاحقا إطلاق خطة للتيسير الكمي3.