فضيحة الليبور (2)
في الحلقة السابقة من هذا المقال انتهينا إلى أنه خلال أزمة سوق المساكن، وكذلك الأزمة المالية العالمية تصاعدت الشكوك حول أسلوب تحديد معدل الفائدة الليبور، حيث أكد المراقبون أن الشواهد المتراكمة تشير إلى أن الليبور يتحدد عند مستويات تقل عن مستوياته التي يجب أن يكون عليها. بالطبع لا يمكن لمصرف واحد أن يحدث هذا التأثير المفترض على الليبور، مما يعني أن هناك تكتلاً ما غير معلن بين مجموعة من المصارف البريطانية مثل مصرف باركليز، وكذلك المصارف العالمية المشتركة في تحديد الليبور لعرض معدلات فائدة تقل عن المعدلات الفعلية التي يجب أن تتحدد وفقًا لقوى السوق، ولكن ما الذي يدفع هذه المصارف إلى أن تقوم بذلك؟ وما الذي يمكن أن يترتب على تحديد معدل الفائدة بما يعكس التكلفة الحقيقية التي يجب أن تقترض على أساسها مصارف مثل مصرف باركليز؟
الإجابة هي أنه في أوقات الأزمة المالية العالمية انعدمت الثقة بالملاءة المالية لمصارف العالم قاطبة، وحرصت المصارف كافة على أن تقوم إما بالاحتفاظ باحتياطياتها في صورة سائلة، ربما لدى المصرف المركزي إذا كان النظام يسمح، أو في أصول آمنة مثل الدين العام الأمريكي، وكانت معدلات الفائدة التي تقترض على أساسها المصارف هي أهم المحددات للملاءة المالية للمصرف، إلى الحد الذي كان ينظر فيه إلى ارتفاع معدل الفائدة التي يقترض على أساسها المصرف، ولو بعدة نقاط أساس، على أنه مؤشر لتراجع الملاءة المالية لهذا المصرف وارتفاع مخاطر تخلفه عن السداد. معنى ذلك أنه لو سمح لمعدل الليبور بالارتفاع في أوقات الأزمة كان سيترتب على ذلك أن تتوقف المصارف عن ضخ السيولة لسوق القروض ما بين المصارف، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى توقف نشاط سوق ما بين المصارف في لندن وارتفاع مخاطر السيولة، ومن ثم انطلاق أزمة في الاقتصاد الحقيقي نتيجة تشديد القيود على/ أو حدوث أزمة في الائتمان، أو أن يواجه المصرف ذاته أزمة سيولة نتيجة تدافع المودعين على سحب مودعاتهم من المصرف.
كيف إذن تم التلاعب بالليبور؟ لكي ندرك بدقة الذي كان يحدث دعونا نستخدم الكلمات التي صرح بها من نحو أسبوعين ''شاهد من أهلها''، حيث قام أحد الممثلين للمصارف البريطانية المشتركة في عملية تحديد الليبور بوصف كيف كان يتم التلاعب بالليبور، وذلك في مقال منشور بصحيفة التليجراف، إذ أقر بأنه شعر أن المصرف كان يتلاعب بالليبور، ولكنه لم ير العملية على هذا النحو في ذلك الوقت، يقول ''لقد قال لنا ممثل المصرف، دون أن يحدد اسمه، إن المصرف لا يمكنه أن يقترض عند هذه المستويات المرتفعة للفائدة، وبالتالي نحن نعرض معدلات أقل لليبور، مثلنا مثل الآخرين''، ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك؟ يشير القائل إلى إن ذلك أمر سهل.
إن جمعية المصرفيين البريطانية التي تقوم بحساب المعدل تطلب من المصارف الرئيسة أن تعرض معدلات الفائدة الخاصة بالأموال التي يمكن أن تقترض أو تقرض على أساسها، غير أن النظام الحالي لتحديد معدل الليبور ليس فيه أي آليات للتأكد من أن ما يتم تقديمه من معلومات يتم على الوجه الصحيح، وما حدث أنه كان هناك قبول عام بأن يقوم مصرف ما بعرض معدلات للفائدة أقل بعدة نقاط كل يوم، ولقد كان الجميع يعلم ذلك؛ لأن الجميع كان يمارس هذه اللعبة، كما أنه لم يكن ينظر إلى العملية على أنها عملية غير قانونية.
معنى ذلك أنه طوال الفترة من 2007-2009 كانت المصارف تتعمد أن تعرض معدلات زائفة لليبور لكي تتجنب أن ينظر إلى القروض التي يمكن أن تحصل عليها على أنها ائتمان ذو مخاطر، وحتى لا تضطر إلى أن تقوم بدفع علاوة مخاطرة، وهو ما يمكن أن يرسل إشارات سيئة في سوق المال حول القوة المالية للمصرف ودرجة استقراره، وأن المصارف المضطربة كانت ببساطة تكذب حول معدلاتها، إما لكي تحقق أرباحًا أو لكي توفر في التكاليف التي يمكن أن تتحملها عندما تقوم بالاقتراض، حتى تبقي معدلات الفائدة الليبور منخفضة بشكل غير واقعي.
ولكن دعونا نتساءل مرة أخرى، ما الضرر الذي يمكن أن يحدث نتيجة قيام مجموعة من المصارف بعرض معدلات فائدة أقل من الواقع؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نتذكر أن الليبور هو الأساس المستخدم في معظم العقود المالية في العالم، مثل عقود مقايضات معدل الفائدة Interest rate swaps، وعقود المشتقات والمستقبليات.. إلخ، الأمر الذي يمكن أن يترتب عليه تحقيق عوائد/ أو خسائر ضخمة للمتعاملين في حال تقلب هذا المعدل.
للتبسيط دعونا نفترض أن إحدى الولايات في أمريكا ترغب في اقتراض مليار دولار، وبما أن معدل الفائدة المتقلب الذي ستدفعه على القرض يصعب التنبؤ به، ومن ثَمَّ يصعب التخطيط للأعمال في ظل المعدلات المتقلبة للفائدة، لذلك قد ترغب الولاية في هذه الحالة في استبدال معدلات الفائدة التي يمكن أن تدفعها مع تقلبات السوق بمعدل فائدة ثابت، ويتم ذلك من خلال شراء عقد مقايضة معدلات الفائدة على سبيل المثال من أحد المصارف، بحيث تدفع الولاية للمصرف معدل فائدة ثابتًا منصوصًا عليه في عقد المقايضة، وليكن 5 في المائة، بينما يدفع بائع العقد ''المصرف'' معدل الفائدة السوقي المتقلب، ويتحمل هو المخاطرة التي يمكن أن تترتب على ذلك، وهو أحد أشكال عقود التغطية في معدلات الفائدة. عندما يتم التلاعب في معدل الفائدة، ويتم تخفيض المعدل عن الـ5 في المائة التي تعاقدت عليها الولاية، على سبيل المثال إلى 3.5 في المائة فإن الولاية تتعرض لخسارة كبيرة، حيث ستستمر في دفع نسبة فائدة 5 في المائة، بينما تتسلم من المصرف البائع للعقد معدل الفائدة السوقي 3.5 في المائة فقط. لاحظ أن الـ1.5 في المائة هذه من إجمالي قيمة القرض تمثل 15 مليون دولار.
والآن تعال نحسب تكلفة التلاعب التي حدثت في معدل الليبور، والتي تقدر بما بين 30 - 40 نقطة أساس لكل تريليون دولار من العقود المالية الدولية.. إنها ببساطة تمثل ما بين 3 - 4 مليارات دولار للتريليون الواحد، وبما أن العقود التي يتم تقييمها أساسًا باستخدام معدل الليبور تقدر بمئات التريليونات من الدولارات، فإنه يتضح لنا الآن فداحة التكلفة التي يمكن أن تنشأ للمتعاقدين في هذه الأنواع من العقود على المستوى الدولي إذا ما حدث تلاعب ولو ضئيل في معدل الفائدة مثلما كان يحدث في حالة الليبور.
معنى ذلك أن المصارف لكي تحمي نفسها من احتمالات تعرضها لدفع علاوة مخاطرة على القروض المتبادلة بينها، أو من احتمال انخفاض تدفق قروض ما بين المصارف إليها، فإنها كانت تعرض المتعاملين حول العالم مثل صناديق التقاعد وصناديق الرهن العقاري والحكومات المركزية والبلديات .. إلخ، لخسائر هائلة.