فضيحة الليبور (1)
الليبور اختصار لعبارة London Interbank Offered Rate LIBOR، والتي تعني معدل الفائدة المعروض لقروض ما بين المصارف في سوق لندن النقدي، وهو معدل تقوم جمعية المصرفيين البريطانية على إصداره بصورة يومية، وهو يغطي معدلات الفائدة على عشر عملات أهمها الدولار واليورو والاسترليني والين واليورو دولار ولآجال متعددة تبدأ من ليلة واحدة، ويعد الليبور أهم آلية لتحديد معدل الفائدة على المستوى الدولي ولعدد كبير من العقود المالية مثل المقايضات والخيارات والقروض والمستقبليات، وقد بدأت جمعية المصرفيين البريطانية في إصدار معدل الفائدة الليبور في عام 1986 كاستجابة للحاجة إلى وجود معدل مرجعي للفائدة على القروض بين المصارف، وفي غضون سنوات قليلة، ونظرا للأهمية الدولية لسوق لندن النقدي، أصبح أكثر معدلات الفائدة استخداما في العالم.
يتحدد معدل الليبور يوميا للعملات الدولية سواء تلك التي يتم إقراضها أو اقتراضها من جانب مجموعة من المصارف الرئيسة في سوق لندن النقدي والتي يتم اختيارها بواسطة جمعية المصرفيين البريطانية، حيث يقوم كل مصرف في المجموعة بعرض معدل الفائدة الذي يدفعه على القروض التي يقترضها وكذلك معدل الفائدة الذي يمكن أن يدفعه لكي يقترض من المصارف الأخرى لكل عملة ولـ 15 تاريخ استحقاق للجمعية، ثم تقوم الجمعية بتجميع هذه البيانات وإرسالها إلى تومسون رويترز لكل تاريخ استحقاق في تمام الساعة 11 صباحا بتوقيت لندن، والتي بدورها تقوم بحذف الربع الأعلى من هذه المعدلات وكذلك الربع الأدنى منها، وما يتبقى، أو ما يطلق عليه في علم الإحصاء المدى الربيعي Inter-quartile range، يتم أخذ متوسط له والذي ينشر بالتبعية على أنه المعدل المعلن لليبور لكل عملة بتواريخ استحقاقاتها المختلفة لهذا اليوم، وذلك في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا بالتوقيت نفسه، وما إن يتم نشر معدلات الليبور حتى تصبح المعدلات المرجعية التي يمكن أن تقوم المصارف بالاقتراض أو الإقراض على أساسها في مختلف العقود في العالم، كما تمثل الأساس الذي تعمل عليه معظم أسواق السيولة في العالم.
هنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى نقطة في غاية الأهمية. لاحظ أن الليبور هو ''معدل مقترح Offered'' والذي يشير إلى معدلات الفائدة التي يتوقع أن تقوم المصارف بالاقتراض على أساسها، أما عندما يتعلق الأمر بالإقراض فإن المصارف ليست مجبرة على أن تقوم بالإقراض على أساس هذه المعدلات، وهذه نقطة مهمة جدا في فهم آلية التلاعب في الليبور ودوافعه، فعندما تقوم مجموعة من المصارف باقتراح معدلات منخفضة للفائدة فإنها في واقع الأمر تعلن أنها تتوقع، عندما تقوم بالاقتراض من المصارف الأخرى، أن تقترض على أساس هذه المعدلات المنخفضة وبالتالي ستدفع تكلفة منخفضة على القروض التي تقترضها، ولكن هل يعني ذلك أنها ملزمة أيضا عندما تقوم بالإقراض أن تقرض المصارف الأخرى على أساس هذه المعدلات المنخفضة؟ الإجابة هي لا! أي أن المصارف المقرضة تقوم بتحميل المصارف المقترضة بمعدلات فائدة أعلى مما هو منشور من معدلات للإقراض.
غالبا ما يتحجج المصرف المقرض في رفع معدل الفائدة عن المعدلات المعلنة إما بأنه لا توجد لديه سيولة كافية فائضة لكي يقوم بإقراضها، أو أن المصرف لا يرغب في أن يقوم بالإقراض عند معدلات الفائدة الحالية للمصرف الآخر لأنه يخشى أن يكون هذا المصرف يواجه احتمالات مخاطر التخلف عن خدمة القرض، إما بسبب وجود أصول مسمومة لدى المصرف المقترض أو رهون عقارية مضطربة والتي يمكن أن تؤثر في رأسمال المصرف أو أن تهدد بإفلاسه. ما يحدث من الناحية الفعلية إذن هو أن المصارف تستخدم ما يسمى معدل الليبور+، أي معدل الليبور إضافة إلى هامش فائدة، لاحظ مرة أخرى أنه في حال تعمد المصارف التي تشترك في عملية تحديد معدل الفائدة بالتخفيض فإن المصارف تحقق بهذا الشكل أرباحا من كلا طرفي السوق (الاقتراض والإقراض).
ولكن لماذا يحتل الليبور هذه الأهمية الدولية كأهم معدل فائدة عالمي؟ الإجابة تكمن في حجم العمليات المالية التي تتم على أساسه، والتي تتسم بالضخامة، فالليبور هو أساس عمليات تسعير قروض تصل إلى نحو عشرة تريليونات دولار سنويا وفقا لتقديرات لجنة التجارة في المستقبليات السلعية في الولايات المتحدة CFTC Commodity Futures Trading Commission، من ناحية أخرى فإن معدل الفائدة الليبور على الدولار الأمريكي هو أساس تسوية المعاملات المستقبلية في عقود اليورو دولار استحقاق ثلاثة أشهر في بورصة شيكاغو، والتي قدرت المعاملات التي تمت فيها في عام2011 بنحو 564 تريليون دولار. بل إن بعض التقديرات تضع هذا الرقم في حدود 800 تريليون دولار.
نحن إذن نتحدث عن معدل الفائدة المستخدم في تسعير أضخم العقود المالية العالمية، والذي سيترتب على أي تلاعب فيه ولو بعدة نقاط مئوية غير ملحوظة تحقيق عوائد أو خسائر مالية كبيرة، ووفقا للجنة شيكاغو لعقود التجارة المستقبلية فإن أية تحركات ولو هامشية في هذه المعدل تؤثر في عوائد الاستثمار وتكاليف الاقتراض من جانب الأفراد والشركات والمستثمرين في العالم.
بعد منتصف 2007 حتى منتصف 2008 حام الكثير من الشك حول أسلوب تحديد الليبور، وعبر الكثير من المراقبين عن شكهم في مدى اعتمادية الأسلوب الذي يتم على أساسه الحساب. ففي نهاية 2007 لفت المراقبون الانتباه إلى الانخفاض غير العادي بين معدل الفائدة لليبور على الدولار ومعدل الفائدة لمدة ليلة واحدة في الولايات المتحدة، كذلك لوحظ اتساع الفجوة بين معدل الليبور على الدولار ومعدل الفائدة الفعال على الأموال الفيدرالية، وفي أيار (مايو) 2009 نشر ''وول ستريت جورنال'' مقالا ذكر فيه أن المعدل المحدد لليبور يعد منخفضا جدا، كذلك لفت الكثير من المراقبين الانتباه إلى أن المعدلات المحددة لليبور غير معبرة عن الاتجاه العالم لمعدلات الفائدة على عقود مقايضات التخلف عن السداد، والتي تعتبر من المقاييس المعتمدة لحساب احتمالات التوقف عن السداد، وخلص المراقبون إلى أنه من الواضح أن المصارف في لندن تعرض معدلات منخفضة تقلل من تكلفة إعادة التمويل بالنسبة لها ولمستويات السيولة الحقيقية التي تتمتع بها حتى لا تكشف درجة ضعفها، وحتى لا تفقد سمعتها السوقية، كذلك لوحظ وجود هذه الفرق في معدلات اتفاقيات إعادة الشراء Repo. مثل هذه الملاحظات أثارت التساؤلات حول مدى دقة وسلامة معدلات الليبور بالنسبة للأوضاع السوقية للمتعاملين. ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أنه هناك احتمال وجود تكتل محدد بين مجموعة من المصارف ذات المصالح المشتركة للتأثير في معدل الفائدة الليبور.
طوال هذه الفترة تجاهلت المصارف البريطانية كل جوانب الشك التي أثيرت حول طريقة تحديد معدل الفائدة الليبور، بل إن جمعية المصرفيين البريطانية دافعت عن اعتمادية ودقة عمليات تحديد معدل الليبور في 2008، وهو ما دفع بالباحثين في المجال إلى محاولة إثبات أن معدل الليبور لم يكن محددا بالفعل وفقا لقوى السوق الحر بما يعكس التكلفة الحقيقية للاقتراض للمصارف المساهمة في تحديده.
فوجئ العالم الأسبوع الماضي بأن الشكوك حول احتمالات التلاعب في الليبور حقيقية وبضلوع بنك باركليز في عملية التلاعب مما أدى إلى انطلاق فضيحة مالية على مستوى عالمي، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله تعالى.