أوشيناريتا جونن
المضاربة المحمومة على الأصول خطر عظيم جدا لما يمكن أن يترتب عليها من آثار اقتصادية خطيرة، حيث يترتب على ارتفاع أسعار الأصول تكون بالونات سعرية في الاقتصاد، ومع انتفاخ البالون يزداد الحافز نحو المضاربة لدى المضاربين بصورة أكبر، على الرغم من ارتفاع درجة المخاطرة المصاحبة للمضاربة على الأصل، وعندما تكون تكلفة الحصول على الأموال أقل من معدلات العائد المتوقع تحقيقه على الأصول، فإن حمى المضاربة تشتعل حتى يبلغ الضغط السعري داخل بالون أسعار الأصول مستوياته الحرجة فينفجر البالون مخلفا وراءه آثارا اقتصادية ومالية مدمرة، ولا شك أن أخطر آثار البالونات السعرية هو على اتجاهات النمو، ولعل أوضح الأمثلة على الآثار المدمرة لبالونات أسعار الأصول هو حالة اليابان، وهذا هو موضوع مقالنا اليوم.
العقد المفقود أو ما يطلق عليه في اليابان ''أوشيناريتا جونن 失われた10年'' هي السنوات التي مرت على الاقتصاد الياباني دون أن يحقق فيها نموا تقريبا، فاعتبرت نتيجة لذلك سنوات مفقودة من عمر الاقتصاد الياباني، قدر عدد هذه السنوات بعشر سنوات تقريبا هي فترة التسعينيات، وهذا هو سر تسميتها بالعقد المفقود.
عندما دخلت اليابان عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت قد أنهت عقدا من افضل عقود النمو بها خلال فترة الثمانينيات، فقد بلغ معدل النمو المتوسط في هذا العقد 4 في المائة تقريبا، وعلى الرغم من أن هذا المعدل كان أقل من المعدلات التي حققتها اليابان في العقود السابقة، إلا أنه كان أعلى من أداء الدول الصناعية المتقدمة كافة. أكثر من ذلك فقد بدأت اليابان تتحول بمعدلات سريعة من اقتصاد موجه أساسا نحو الخارج تلعب فيه الصادرات الدور الأساسي كمحرك للنمو، إلى اقتصاد يتجه نحو الداخل حيث أصبح النمو يعتمد إلى حد كبير على التوسع الداخلي، على سبيل المثال في عام 1988 بلغ معدل نمو الطلب المحلي 7.4 في المائة.
كانت اليابان محط أنظار العالم كأنجح نموذج للنمو الاقتصادي في تلك الفترة، حيث تحولت في غضون فترة قصيرة بعد الحرب العالمية الثانية من اقتصاد شبه منهار إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وصاحبة أعلى متوسط لنصيب الفرد من الدخل في العالم. باختصار، في أواخر الثمانينيات كان الاقتصاد الياباني في غاية القوة، كما كانت معدلات الفائدة منخفضة، وأخذت أسعار الأصول في الارتفاع السريع نتيجة للمضاربة المدفوعة بانخفاض تكاليف الأموال والمتمثلة في معدلات الفائدة المنخفضة، وهو ما رفع أسعار الأصول إلى مستويات فلكية خلال عقد الثمانينيات، ففي هذا العقد تضاعفت أسعار الأسهم ست مرات تقريبا وتضاعفت أسعار الأراضي أكثر من أربع مرات، لدرجة أنه يقال إن قطعة صغيرة من الأرض في طوكيو كانت قيمتها أكبر من قيمة ولاية كاليفورنيا بالكامل.
بات من الواضح أن بالون أسعار الأصول غير مستدام تحت أي ظرف من الظروف، وأدى التصاعد الفلكي لأسعار الأصول بالحكومة اليابانية إلى محاولة فرملة اتجاهات الأسعار نحو الصعود، فقامت برفع أسعار الفائدة للحد من المضاربة، وهو ما ترتب عليه انهيار بورصة الأوراق المالية ونشوء أزمة ديون عنيفة، وأخذ النشاط الاقتصاد في الانحسار بشكل سريع.
عندما انحسر النشاط الاقتصادي في اليابان أخذت في تحقيق معدلات نمو منخفضة وسالبة في بعض السنوات، ودخل الاقتصاد الياباني في كساد طويل المدى، فقد بلغ معدل النمو المتوسط خلال العقد المفقود 1.2 في المائة، وهو معدل أقل من متوسط معدل النمو في دول مجموعة السبع الأخرى (كندا 3.4 في المائة والولايات المتحدة 3.2 في المائة، والمملكة المتحدة 2.7 في المائة، وفرنسا 2.3 في المائة، وإيطاليا 1.8 في المائة، وألمانيا 1.4 في المائة)، كذلك كان هذا النمو أقل من باقي دول العالم الصناعي.
كان وقود بالون أسعار الأصول، مثلما هو الحال في أي تجربة أخرى، هو الديون، ونتيجة لذلك ترتب على انفجار البالون أزمة ائتمان عنيفة، وارتفعت قيمة الأصول المسمومة في ميزانيات البنوك وتحول الانفجار إلى أزمة مصرفية، حيث عانت البنوك من خسائر ضخمة مع ارتفاع معدلات التوقف عن خدمة الديون. استجابة للأزمة قامت الحكومة اليابانية بضخ أموال ضخمة في البنوك لمنع هذه البنوك من الانهيار، وهي السياسية التي اختلفت وجهات النظر حولها بين المراقبين. كانت عملية إنقاذ البنوك تستند إلى أن هذه البنوك أكبر من أن تسقط، وأن السماح بإفلاس هذه البنوك سيترتب عليه آثار ضخمة على الاقتصاد الوطني، غير أن المنتقدين لمثل هذه السياسة رأوا أن عملية إنقاذ البنوك ترتب عليها ولادة بنوك زومبي (أي مؤسسات مالية لا يمكن أن تعيش دون المساعدة الحكومية المستمرة لها)، وأن أزمة الائتمان ستستمر طالما لم يسمح لهذه البنوك بالإفلاس.
كما هو الحال في أغلب الأزمات المالية العنيفة، انتقلت الأزمة من القطاع المالي إلى الاقتصاد الحقيقي في اليابان، ودخل الاقتصاد الياباني في حالة كساد وتراجع النمو بصورة كبيرة من أكثر من 6 في المائة في 1990 إلى 1 في المائة فقط في 1992. لجأت الحكومة اليابانية إلى تشكيلة كبيرة جدا من السياسات، منها تخفيض معدلات الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر، وخفض تكلفة الائتمان إلى أدنى درجة، والى جرعات مكثفة من التيسير الكمي.
من ناحية أخرى، حاولت اليابان استخدام السياسة المالية لتحفيز الاقتصاد الياباني، فخلال السنوات الثلاث الأولى من التسعينيات تم انفاق نحو 6 في المائة من الناتج المحلي في صورة حزم مالية مكثفة من الإنفاق على مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والجسور لمساعدة الاقتصاد الياباني على الخروج من الأزمة، وقد واجهت هذه الحزم الكثير من النقد على أساس أنه تم إنفاقها على مشروعات لا عائد منها، بينما كان من الأفضل لليابان لو تم إنفاقها في مجالات الطب والصحة والتعليم وغيرها من الخدمات العامة الأساسية، بينما رأى البعض الآخر أنه كان من الممكن أن تكون استفادة الاقتصاد أفضل لو تم توجيه هذه الأموال نحو تخفيض الضرائب، لرفع مستويات الإنفاق الخاص.
في منتصف التسعينيات كانت هناك إشارات إلى ارتفاع معدلات النمو في الناتج والتي نظر إليها على أنها استعادة للنشاط الاقتصادي والخروج من الكساد بفعل جهود الاستقرار المتعددة التي قامت بها الدولة، وقد صاحب هذا النمو تحقيق الميزانية لعجز كبير، واستجابة للعجز قامت الحكومة برفع الضرائب، مما زاد الطين بلة، فقد ثبت بعد ذلك أن هذه الإشارات كانت زائفة، وعاد الاقتصاد الياباني مرة أخرى إلى تحقيق نمو صفري في 1997، ومع تراجع معدلات النمو كانت الأسعار تتراجع ودخل الاقتصاد الياباني في موجة انكماش سعري، حيث لم تفلح معدلات الفائدة شبه الصفرية في تشجيع عمليات الاقتراض، واستمرت الإنفاق الاستثماري ضعيفا، وشهد عام 1997 إفلاس عدد من المؤسسات المالية اليابانية الكبرى مثل Hokkaido-takushoku Sanyo, Yamaichi، وهو ما جعل الحكومة تلجأ إلى ضخ نحو تريليوني ين في أكثر من 20 بنكا، وتم خفض معدلات الخصم لدى البنك المركزي إلى الصفر. فشلت جميع سياسات تحفيز الطلب التي لجأت إليها اليابان طوال فترة الأزمة في إحداث أي تطورات في النمو على النحو الذي كان متوقعا من مثل هذه الإجراءات، وظل النمو ضعيفا طوال عقد التسعينيات بأكمله.
اختلف المراقبون بصورة واضحة حول أسباب العقد المفقود في اليابان، فالبعض أرجعه إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري وزيادة الميل نحو الادخار بدلا من الإنفاق، والبعض يرجعه إلى عدم كفاءة السياسة النقدية، والبعض الآخر يرجعه إلى شيخوخة السكان في اليابان وتراجع النمو السكاني... إلخ، وهكذا تتعدد الأسباب غير أن سبب المشكلة واحد (انفجار بالون أسعار الأصول) والنتيجة واحدة (تراجع معدلات النمو إلى مستويات دنيا).
بعد نشوب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 أخذ العديد من المراقبين يقارنون بين العقد المفقود في اليابان واحتمالات تكراره في الولايات المتحدة وأوروبا، على أساس أن هناك درجة كبيرة من التشابه في مسببات العقد المفقود وما تلاه من سياسات في اليابان وما يحدث بالفعل على أرض الواقع في هذه الدول، التي أصبحت تواجه الظروف نفسها وتستخدم السياسات نفسها لدفع النمو، ولكن دون جدوى. بل إن الكثير من الكتابات عادت لتؤكد مرة أخرى أن العقد المفقود في اليابان، ليس عقدا واحدا وإنما عقدان. فهل تتكرر قصة العقد المفقود في هذه الدول؟ حتى اليوم الإشارات تؤكد أن الإجابة هي نعم، إلا أن يكشف المستقبل عن تغيرات هيكلية في اتجاهات النمو في هذه الدول.