بانكيا.. ليمان براذرز إسبانيا
يعد ''بانكيا'' أشهر أسماء المصارف الإسبانية التي تتداولها وكالات الأنباء من وقت إلى آخر، باعتباره أكثر المصارف حاليا المهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى، واضعا النظام المالي الإسباني بأكمله في مهب الريح. فبعد أن انطلقت الأزمة المالية العالمية في 2008 أخذت فقاعة المساكن في إسبانيا في الانفجار، ولمواجهة المشكلات الكامنة للمصارف الإسبانية طلبت الحكومة الإسبانية من المصارف رفع نسبة رأس المال إلى أصولها إلى 10 في المائة، وذلك من أجل تقليل مخاطر لجوء هذه المصارف للحكومة، الأمر الذي يترتب عليه تحويل أموال دافعي الضرائب لهذه المؤسسات، كما عملت على تشجيع عمليات الاندماج بين المصارف الإسبانية لتكوين كيانات أضخم أكثر قدرة على مواجهة تطورات قطاع المساكن.
''بانكيا'' مجموعة مندمجة من سبعة مصارف ادخار محلية إسبانية تم إنشاؤها في عام 2010، وذلك في محاولة لإنقاذ مصارف المجموعة من الانهيار. باندماج هذه المجموعة تحول ''بانكيا'' إلى ثالث أكبر المصارف الإسبانية من حيث حجم الأصول ورابع أكبر مصرف في إسبانيا من حيث عدد العملاء (12 مليون عميل)، ومن ثم فإنه يشكل مجموعة مالية ضخمة تملك أربعة آلاف فرع ويعمل فيها 25 ألف موظف تقريبا، كما يستحوذ على حصة سوقية تقدر بنحو 10 في المائة من سوق الخدمات المصرفية الإسبانية، بينما بلغت أصوله نحو 340 مليار يورو عند الاندماج. غير أنه بإنشاء المصرف تم تحويل كل الأصول المسمومة للمصارف السبعة إلى المصرف الجديد، وهذا هو مكمن الخطر الذي يواجهه المصرف حاليا.
في عام 2011 تمت محاولة زيادة رأسمال المصرف بطرح أسهمه على المستثمرين في العالم، لكن الطرح لم يلقَ الترحيب المناسب من المستثمرين الدوليين، ولذلك واجهت عملية تسوق أسهم المصرف في الخارج مقاومة شديدة، ونتيجة لذلك تم طرح زيادة رأس المال لـ ''بانكيا'' على الجمهور، وهو ما عقّد الأمور بشكل أكبر، حيث يرى المراقبون أنه ما كان يجب طرح أسهم على الجمهور لمصرف يعاني كل هذه المشكلات في هيكله المالي، وفي أيار (مايو) 2012 أصبح من الواضح أن المصرف في حالة شبه انهيار، وفي محاولة لإنقاذه قامت الحكومة بتأميم المصرف بصورة جزئية من خلال تقديم 4.5 مليار يورو في صورة صندوق للإنقاذ في مقابل أسهم تفضيلية تستحق في 2015، وذلك ضمن جهود الحكومة الإسبانية لإنقاذ نظامها المالي وللحيلولة دون إفلاس المصرف تحت ضغوط الأصول المسمومة من القروض العقارية.
منذ أن تم إنشاء المجموعة و''بانكيا'' يواجه مخاطر الإفلاس، ففي العام الماضي حقق ''بانكيا'' نحو ثلاثة مليارات يورو خسائر، وفي أيار (مايو) الماضي أعلن المدير التنفيذي لـ ''بانكيا'' أن المصرف بحاجة إلى حزمة إنقاذ تقدر بنحو 19 مليار يورو حتى يتمكن من تنظيف قوائمه المالية من الأصول المسمومة، وهي من هذا المنطلق تعد أكبر حزمة إنقاذ في تاريخ إسبانيا. السبب الأساسي في ارتفاع مخاطر إفلاس هذا المصرف أنه يعد أكبر مصرف في إسبانيا من حيث التعرض للقروض الممنوحة للقطاع العقاري، حيث يبلغ حجم القروض العقارية المقدمة من المصرف حاليا نحو 38 مليار يورو تشكل أصولا مسمومة في قائمته المالية.
في العام الماضي بلغ سعر سهم ''بانكيا'' نحو أربعة يورو تقريبا، البيانات المتاحة اليوم تشير إلى هبوط سعر السهم إلى نحو 0.9 يورو، أي بانخفاض نسبته 87 في المائة تقريبا، ووفقا لآخر القوائم المالية للمصرف المنشورة في كانون الأول (ديسمبر) 2011، بلغ رأسمال المصرف 12.5 مليار يورو، بينما بلغت أصوله في هذا التاريخ 303 مليارات يورو، بالطبع سيترتب على إلغاء هذه الأصول المسمومة من القوائم المالية للمصرف تراجع نسبة رأسمال المصرف إلى أصوله إلى حافة الانهيار، الأمر الذي يقتضي ضرورة رفع رأسمال المصرف لضمان سلامته، أو انهيار المصرف.
سيترتب على حقن المصرف بـ 19 مليار يورو أن تصل كمية الأموال التي ضختها الحكومة في المصرف منذ بداية أزمته إلى 33 مليار يورو، وهو مبلغ ضخم جدا بالمعايير الإسبانية، حيث يمثل نحو 3 في المائة من الناتج المحلي الإسباني. كما سيؤدي ذلك إلى رفع ملكية الحكومة في أسهم المصرف بصورة جوهرية تصل إلى نحو 90 في المائة، وهو ما ينظر إليه على أنه أكبر عملية تأميم قامت بها الحكومة الإسبانية.
كما أشرنا مسبقا إلى أن الحكومة الإسبانية ظلت تقاوم الحاجة إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي، غير أن إعلان ''بانكيا'' أنه في حاجة إلى 19 مليار يورو لإطفاء ديونه المسمومة، اضطر الحكومة إلى اللجوء إلى طلب المساعدة الخارجية، وأعتقد أن لجوء الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة يعود إلى أنه بات من الواضح عدم قدرة الخزانة الإسبانية على تسويق قروض بهذا الحجم ولمثل هذا الغرض دون أن تدفع معدلات استثنائية للعائد، خصوصا بعد أن بلغ معدل العائد السوقي على سنداتها استحقاق عشر سنوات نحو 7 في المائة تقريبا، وهو معدل غير مستدام لدولة مدينة، هذا إن وجدت من يقرضها أصلا لمثل هذا الغرض.
تنبع مشكلة ''بانكيا''، كما ذكرنا، من مشاركته المكثفة في عمليات تمويل بناء المساكن التي انتشرت في إسبانيا أثناء فورة سوق المساكن في العقدين الأخيرين، لدرجة أنه في عام 2006 فقط نمت محفظة القروض العقارية في أعضاء المجموعة بنسبة 25 في المائة، وعلى الرغم من التحذيرات التي كانت تطلق من وقت إلى آخر حول ارتفاع درجة سخونة سوق المساكن الإسباني، حيث نظر بعض المراقبين إلى سوق المساكن على أنه بالون كبير يتشكل في إسبانيا، إلا أن أعضاء المجموعة تجاهلوا تلك التحذيرات واستمروا في التوسع في الإقراض العقاري مدفوعين بمعدلات الارتفاع السريع لأسعار المساكن. إنها القصة نفسها التي واجهتها القطاعات المالية في الكثير من دول العالم بما فيها دبي، والتي ارتفعت فيها أسعار المساكن بأكثر من 200 في المائة خلال الفترة من 2003 - 2007، ومع ذلك لم يفكر أحد من المتعاملين في قطاع المساكن أنهم يسيرون وسط فقاعة كبيرة على وشك الانفجار، وعلى العكس من ذلك ازدادت عمليات تمويل المؤسسات المالية لمشروعات المساكن مرتفعة المخاطر تحت إغراء معدلات العائد المرتفع التي تحققها المساكن في الأجل القصير دون الأخذ في الاعتبار انعكاسات مثل هذه الاستثمارات الخطرة على متانة والسلامة المالية للمؤسسات المقرضة على الأجل الطويل.
في نيسان (أبريل) الماضي أوصى صندوق النقد الدولي بأن تقوم الحكومة الإسبانية بتدبير المزيد من رأس المال للمصارف الإسبانية، بصفة خاصة للمصارف الكبرى، وذلك لتأمين قوائمها المالية لضمان استقرار قطاعها المالي، وأن تقوم بتحسين إدارات هذه المصارف وزيادة درجة حوكمتها. وتحت ضغط هذه التحذيرات اضطرت الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي. غير أنه في اليوم الذي تقدمت فيه إسبانيا رسميا الأسبوع الماضي للحصول على المساعدة المالية، قامت مؤسسة موديز بتخفيض التصنيف الائتماني لـ 28 مصرفا إسبانيا على رأسها مجموعة مصرف بانكيا، من Baa3 إلى التصنيف Ba2، وهو التصنيف الذي يعطى للمؤسسات المقدمة على الانهيار، وذلك في أعقاب تخفيض تصنيف المصرف أيضا من جانب مؤسسة ستاندرد آند بور إلى BB+. السبب الرئيس في عملية تخفيض التصنيف هو ضعف القدرات التمويلية للحكومة الإسبانية على تقديم المساعدة المالية اللازمة لإعادة رسملة هذه المصارف ووقف اتجاهها نحو الإفلاس.
اليوم تعد الحكومة الإسبانية خطة الإنقاذ المالي لمصارفها باستخدام الحزمة التي أعلن الاتحاد الأوروبي تقديمها لإسبانيا، غير أن المراقبين يرون أنها ربما لا تكون كافية لطمأنة الأسواق حول الوضع المالي الإسباني، كذلك يتشكك المصرف المركزي الأوروبي في أن عملية حقن الحكومة الإسبانية للأموال في ''بانكيا'' هي أفضل طريقة لإعادة رسملة المصرف، ولذلك تدور التكهنات حاليا حول احتمال حاجة إسبانيا إلى خطة إنقاذ كاملة على النمط نفسه الذي قدم لباقي دول مجموعة الـ PIIGS، حتى يتم ذلك سيظل الحجم الضخم لـ ''بانكيا'' يحول دول السماح له بالإفلاس، ويفرض على الحكومة الإسبانية ضرورة بذل جهودها كافة للحيلولة دون سقوط المصرف، ذلك أن ''بانكيا'' بالمقاييس الإسبانية يدخل ضمن قائمة ما يطلق عليه ''أكبر من أن يفلس'' Too big to fail، لأن السماح لـ ''بانكيا'' بالإفلاس سينشر الدمار الشامل في القطاع المالي الإسباني بأكمله، وهو إن حدث - لا قدر الله - سيعيد قصة إفلاس مصرف ليمان براذرز، لكن على الطريقة الإسبانية.