مصر بين الثورة والانقلاب

أُقنع الكثير بأن ما حدث في مصر 1952 ثورة، بينما حال الواقع أنه انقلاب عسكري على أثر تراكم سوء أداء في النظام الذي سبقه، لكنه أكثر من انقلاب من ناحية أخرى على أثر التحولات المصاحبة للحقبة الاستقلالية وما تلاها من شحن قومي. مرة أخرى تتراكم العيوب الهيكلية وتفشل النخبة والشعب في إحداث نقلة نوعية، إلى أن شهدنا الأحداث الأخيرة التي بدت واضحة أنها بوادر ثورية انتهت بانقلاب شبه ناعم.
حالة الدولة في مصر قوية، لكن نظام الحكومة ضعيف، وبالتالي فإن عدم القدرة الذاتية على ارتقاء سلم التطور أو إحداث ثورة جوهرية في العمق السسيولوجي أو التنموي جعل مصر في حالة معلقة: رغبة حتى حاجة إلى تغيير ثوري ينتهي بانقلاب وتغييرات شكلية تحافظ على هياكل أزلية غير قادرة على تلبية طموح المصريين ومَن يهتم بشأنهم.
بدا واضحا منذ بداية 2011 أن الغصب والرغبة في التغيير لم يمتدا إلى العمق المصري، إنما في نخب وطبقات أكثر وعياً، لكن الأغلبية الواضحة بدت وكأن الوضع لا يعنيها، لذلك تجد الصراع لا يزال في دائرة النخب ممثلة في المحكمة الدستورية والمؤسسة العسكرية وفئة "متمصلحة" وقيادات المعارضة من جهة أخرى، التي بدورها واعية بمحدودية المدى الثوري، وبالتالي ضعف مزمن في القدرة على التغيير. استطاعت قيادات هذه الفئات تدريجياً امتصاص الغضب وتحويره إلى تحييد الحالة الثورية وتغليب الحالة الانقلابية على مدى السنة ونصف السنة الماضية.
نحن نشهد تأزماً هيكلياً طويل الأجل جوهره فشل تنموي. الصعوبات العملية في حل المعضلة التنموية في ظل شح الموارد وإدارتها الهزيلة تاريخياً يجعل النخب في مأزق، فلم تعد قادرة على المصارحة، وليس الشعب قابلاً أن يتفهم عمق الإشكالية وليس النظام "الديمقراطي" المنتظر قادراً على إيجاد التوازن والتماسك اللازم لإحداث نقلة نوعية، فمن دون شرعية قوية يصعب قيام حوكمة مؤثرة. المقارنة التاريخية دائماً جذابة لكنها دائما قاصرة، ولعل حروب الأفيون في الصين عام 1832 ما يسميه الصينيون القرن الضائع (انتهى مع ثورة 1949) ولعل هزيمة 1967 أدخلت مصر في القرن الضائع، لذلك فإن المشوار قد يطول.
الحل السحري هو قيام سلطة وطنية عسكرية حتى أيديولوجية ذات وعي تنموي خالص بعيداً عن المغامرات، وجر مصر إلى تحديات أكبر منها. في الآخر لن تنجح مصر أو غيرها دون تحقيق فائض رأسمالي (للتمويل مصادر داخلية وخارجية) لإعادة استثماره لتحقيق نمو اقتصادي حقيقي، وهذا يتطلب إعادة النظر في منظومة الدعم وتغيير هيكلي في التعليم وإيجاد الميزة النسبية التنافسية لمصر، لكن ضغط الأحداث والمطالب الآنية غالبا ما يُبرز الأبعاد الفكرية والأيديولوجية والنفسية والحلول الترقيعية التي تقفز على الاستحقاقات العملية الطويلة الأجل، وبالتالي قد تدخل مصر في نفق مظلم، كما وصفته إحدى قيادات المعارضة. أمام مصر مشوار طويل وتحد كبير ومخاطر جسام ممثلة في انزلاق مصر نحو النموذج الباكستاني. لدى مصر مصادر قوة متمثلة في نظام الدولة، لكن يبقى دور النخب والحكومة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي