الحرب والاقتصاد الأمريكي (2 من 2)
في المقال السابق تناولنا الآثار السلبية والإيجابية المتوقعة للإنفاق العسكري على الاقتصاد الوطني من الناحية النظرية، وتساءلنا عن نتائج الحرب على الاقتصاد الأمريكي. اليوم نحلل النتائج التي توصل إليها معهد السلام والاقتصاد في دراسة له نشرت أخيرا بعنوان ''آثار الحرب على الاقتصاد الأمريكي''، قام المعهد فيها بتحليل الآثار الكلية للإنفاق الحكومي في خمس حروب أساسية، هي: الحرب العالمية الثانية، الحرب الكورية، حرب فيتنام، الحرب الباردة، وحرب العراق وأفغانستان، على الميزانية العامة وآثار عملية تمويل الإنفاق الحكومي على الحرب، والآثار على الاستهلاك والاستثمار والضرائب والتضخم.
غالبا ما يشار إلى أن الولايات المتحدة خرجت بصورة أساسية من الكساد الكبير الذي بدأ في 1929 من خلال خوض الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت فترة الحرب العالمية الثانية واحدا من أعلى معدلات النمو قصير الأجل في تاريخ أمريكا (17 في المائة في 1942)، لكن هذا النمو الاستثنائي كان مدفوعا أساسا بالإنفاق الحكومي، فلم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها نسبة للإنفاق الحكومي إلى الناتج كتلك التي تحققت خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج نحو 80 في المائة، وهي نسبة مرتفعة جدا، حيث تجاوز الإنفاق الحكومي الإنفاق الاستهلاكي الخاص لأول مرة، كما تناقص الإنفاق الاستهلاكي الخاص من 65 في المائة من الناتج في بداية الحرب إلى 45 في المائة في 1944، بينما اقتصر الاستثمار على 3 في المائة فقط من الناتج، وهو بكل المقاييس أمر استثنائي، فقد كانت الموارد مخصصة أساسا للإنتاج العسكري.
أما عن تمويل هذا الإنفاق الحكومي فقد كان يتم أساسا من خلال الاقتراض، لذلك بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج أعلى مستوياتها على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة بنهاية الحرب العالمية الثانية، وتجاوزت نسبة 120 في المائة من الناتج، لم تصل نسبة الدين إلى الناتج هذه المستويات من قبل. بالطبع من المتوقع تحقيق هذه المعدلات من النمو في مقابل هذا الحجم الضخم للإنفاق العام، لأنه حتى لو تصورنا قيام الحكومة بهذا القدر من الإنفاق في ظل غياب الحرب، فقد كان سيؤدي إلى النتائج نفسها على النمو وربما إلى نتائج أفضل.
من المؤكد أن أفضل نتائج الحرب العالمية الثانية كانت على معدلات البطالة التي انخفضت من نحو 15 في المائة عام 1940 إلى 1.9 في المائة فقط في 1945، وهو أدنى معدل للبطالة في التاريخ الأمريكي، حيث كان يعمل نحو 20 في المائة من السكان الأمريكيين في القوات المسلحة. غير أن معهد السلام والاقتصاد يشير إلى أن إحدى أهم نتائج الحرب العالمية الثانية هي أنها مهدت الطريق لتوزيع أفضل للثروة، وهو الاتجاه الذي استمر في الولايات المتحدة حتى نهاية حرب فيتنام، الأمر الذي مهد لنشوء اقتصاديات الاستهلاك الكبير في أمريكا. فقد كان للحرب تأثير إيجابي واضح في تركز توزيع الدخل في الولايات المتحدة، وفقا للإحصاءات المتاحة فإن الـ 10 في المائة الأعلى دخلا من السكان الأمريكيين كانوا يحصلون على 45 في المائة من الدخل خلال الفترة 1920 - 1940، غير أنه مع قيام الحرب انخفض نصيبهم إلى 32.5 في المائة، قبل أن تعود مرة أخرى إلى 45 في المائة في 2007.
كان للحرب الكورية 1950 - 1953 التأثير نفسه في النمو في الاقتصاد الأمريكي الذي بلغ في عام 1951 نحو 11 في المائة، وكان أيضا مدفوعا بنمو الإنفاق الحكومي على الحرب، وكما حدث في الحرب العالمية الثانية، انخفضت مستويات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في مقابل زيادة الإنفاق الحكومي، غير أن الولايات المتحدة كانت قد استوعبت درس الحرب العالمية الثانية في تمويل الإنفاق من خلال العجز، وبدلا من ذلك تم تعديل أسلوب التمويل بالضرائب بدلا من التمويل بالعجز الذي تسبب في رفع نسبة الدين إلى الناتج إلى مستويات استثنائية خلال الحرب العالمية الثانية، وارتفع معدل التضخم نتيجة لذلك.
من حيث التكلفة كانت حرب فيتنام التي بدأت فعليا في 1965، أقل تكلفة من الحربين العالمية الثانية والحرب الكورية، ذلك أن الإنفاق العسكري الأمريكي كان مرتفعا أساسا بسبب الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي، فلم تزد نسبة الإنفاق العسكري في أقصى مستوياتها على 9.5 في المائة من الناتج، ومرة أخرى لم تلجأ الولايات المتحدة إلى التمويل بالعجز، إنما بزيادة مستويات الضرائب، ونظرا لأن الإنفاق العام لم ينم بصورة جوهرية، فلم يترتب على نمو الإنفاق الحكومي تراجع الاستهلاك أو مستويات الاستثمار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الحرب الكورية، وبشكل عام بلغ معدل نمو الناتج أقصى مستوياته خلال الحرب نحو 7.3 في المائة في عام 1966.
كان الوضع مختلفا بالنسبة لحرب العراق وأفغانستان، حيث كان الاقتصاد الأمريكي يعيش مرحلة الكساد التي نتجت عن انفجار فقاعة شركات التكنولوجيا في عام 2000 وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولعل قيام الولايات المتحدة بإعلان هذه الحرب يعد أحد أسباب الاعتقاد الذي يسود حاليا باحتمال قيام الولايات المتحدة بحرب قريبة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من حالة الكساد التي يعانيها.
في أثناء حرب العراق وأفغانستان بلغ الإنفاق العسكري أوجه عند نسبة 4.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتجدر الإشارة إلى أن مستشاري الرئيس الأمريكي قد صوروا له حرب العراق وأفغانستان على أنها عملية جراحية دقيقة محسوبة النتائج والتكاليف، إلا أن الواقع العملي أثبت أن التزامات الولايات المتحدة في حرب أفغانستان بالذات أخذت في التزايد مع مرور الوقت، وهناك من يرى أن التكلفة الحقيقية لحرب العراق وأفغانستان كانت باهظة للغاية، على سبيل المثال يقدر الاقتصادي الأمريكي ستجلز الحاصل على جائزة نوبل، تكلفة الحرب بنحو ثلاثة تريليونات دولار، وفي تحديث آخر لهذه التكلفة يقدرها ستجلز بخمسة تريليونات دولار.
على العكس من الحروب السابقة التي تم فيها تمويل الإنفاق على الحرب من خلال الضرائب، لم تمكن ضغوط الكساد والإعفاءات الضريبية التي أقرها الرئيس بوش مرتين بهدف تشجيع النشاط الاقتصادي الخاص، الولايات المتحدة من تمويل حربها من خلال الضرائب، لذلك عادت الولايات المتحدة إلى التمويل من خلال العجز مرة أخرى، فقد كانت هذه هي المرة الأولى في الولايات المتحدة التي يتم فيها إقرار خفض للضرائب وهي مقدمة على حالة حرب، وفي الحقيقة يصعب فصل أثر حرب العراق وأفغانستان في الاقتصاد الأمريكي لتداخلها بشكل واضح مع أزمة سوق المساكن وما تلاها من أزمة مالية واقتصادية، وأعتقد أنه ما زال هناك مزيد من الوقت كي يمكن تقييم الأثر الصافي النهائي لحرب العراق وأفغانستان في الاقتصاد الأمريكي، الذي من المؤكد أنه لن يكون مهمة سهلة.
من هذا التحليل نصل إلى خلاصة مفادها أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة كان لها تأثير إيجابي بشكل عام على معدلات النمو، حيث حققت الولايات المتحدة معدلات نمو استثنائية أثناء تلك الحروب، غير أنه ينبغي الإشارة إلى أن هذا النمو كان مرجعه الأساسي زيادة مستويات الإنفاق الحكومي، وفي كثير من الحالات على حساب الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، وتصاعد عجز الميزانية ونسبة الدين العام إلى الناتج إلى مستويات مرتفعة، ولذلك أعتقد أنه يصعب القول إن الأثر الصافي للحرب في اقتصاد الولايات المتحدة كان موجبا من الناحية الحقيقية.