رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


النمو الصيني ينحسر

تواجه الصين هذا العام تراجعا مستمرا في معدلات النمو الحقيقي مع تصاعد الضغوط الخارجية، بصفة خاصة تلك التي تأتي من أوروبا مع تصاعد أزمتها، وتواضع معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وكذلك من المصادر الداخلية، خصوصا مع تراجع سوق العقارات الصيني، الأمر الذي أثر في مستويات ثقة المستهلكين بالصين. فقد اقتصر معدل النمو في الربع الأول من هذا العام على 7.5 في المائة، كذلك يتوقع حاليا أن يكون النمو المحقق في الربع الثاني من هذا العام أقل من 7 في المائة، إذا لم تتحسن الأوضاع في الصين. الاقتصاد الصيني لا ينحسر من الناحية المطلقة إذن، لكن معدل النمو الذي يحققه يتراجع، حيث تشير التوقعات الحالية حول معدلات النمو الاقتصادي في الصين في 2012 إلى أنها لن تتجاوز 7.5 في المائة، وهو بالفعل المعدل المستهدف حاليا من الحكومة الصينية، الذي يعد أقل من المعدل الذي كان متوقعا منذ البداية والذي يصل إلى 8.2 في المائة.
قد يرى البعض أن هذا التراجع في التوقعات حول النمو الصيني ليس جوهريا، أخذا في الاعتبار أن النمو الفعلي ينخفض عن المتوقع بنحو 0.5 في المائة تقريبا، إلا أن فداحة الانحسار في النمو تصبح أكثر وضوحا عندما نأخذ في الاعتبار اتجاهات النمو العامة في الصين منذ بداية هذا العقد، حيث بلغ متوسط معدل النمو نحو 10 في المائة تقريبا لسنوات عدة مضت، بما في ذلك أحلك سنوات الأزمة، وإذا صدقت هذه التوقعات بأن النمو سيقتصر على 7.5 في المائة فإن ذلك يعني أن الصين ستحقق هذا العام أقل معدلات للنمو منذ عام 2004، حيث سيتراجع النمو بشكل مستمر من 10.4 في المائة في 2010 إلى 9.2 في المائة ثم إلى 7.5 في المائة هذا العام، وهي اتجاهات تؤكد بوضوح تواضع معدلات النمو الاقتصادي الصيني المحققة خلال هذا العام.
العوامل المسؤولة عن انحسار النمو تتلخص وفقا للحكومة الصينية في تراجع سوق العقار، وانخفاض الصادرات وانخفاض ثقة المستهلكين وتراجع النمو في مبيعات التجزئة. فقد بات من الواضح أن سوق العقارات الصيني ربما يستعد لتكرار نفس تجربة سوق المساكن في دول العالم الصناعي، حيث يتراجع الطلب على المساكن بصورة واضحة، ويواجه المطورون العقاريون وشركات الرهن العقاري المخاطر نفسها التي تعرضت لها المؤسسات المالية المتعاملة في سوق المساكن في دول العالم الأخرى، ولذلك ليس من المستغرب أن نجد أن قطاع الإنشاءات هو أكثر القطاعات حاليا تأثرا، حيث أخذت معدلات البطالة في الارتفاع بشكل واضح بين عمال البناء، فمطورو العقارات يواجهون أزمة سيولة حادة مع تراجع مبيعات المساكن، ويواجهون مشكلة ارتفاع أعباء الفوائد على قروض البنوك. المثير للقلق أيضا أن النمو في الإنفاق الاستثماري في مجالات الآلات والمعدات والأراضي والمباني وغيرها من أشكال الاستثمار الثابت يتراجع بصورة لم تشهدها الصين هذا العقد.
بسبب التشابك الكبير الذي أصبح إحدى سمات الاقتصاد الآسيوي حاليا، يتوقع أن ينحسر النمو في آسيا أيضا، فقد أشار البنك الدولي إلى أن انحسار النمو في الاقتصاد الصيني سيترتب عليه أن تتأثر معدلات النمو في منطقة شرق آسيا بالكامل هذا العام، وبناء عليه يتوقع البنك أن يتراجع النمو في هذه المنطقة من 8.2 في المائة في العام السابق إلى 7.6 في المائة هذا العام.
الحل الذي يقترحه البنك الدولي على الصين لرفع معدلات النمو هو - في رأيي - أشبه بالسم للاقتصاد الصيني، حيث يقترح البنك الدولي أن تخفف الصين اعتمادها على الصادرات وتتجه إلى دعم الطلب المحلي، وهي روشتة تقاومها الصين منذ فترة، فقد يبدو الحل الذي يقترحه البنك الدولي معقولا، على الأقل من الناحية النظرية، غير أن توجه الصين نحو الداخل من المؤكد سيفقدها تنافسيتها الحالية، التي هي أساسا مصدر نموها الأساسي، ومن ثم سيسبب لها المزيد من التراجع في النمو.
في مواجهة تراجع النشاط الاقتصادي الصيني، قرر البنك المركزي الصيني (بنك الشعب) خفض نسبة الاحتياطي القانوني في البنوك الصينية بنصف في المائة في آذار (مارس) الماضي، وهو ما يعد من الأدوات التي تيسر السياسة النقدية وترفع من قدرة البنوك على منح المزيد من الائتمان، وتساوي هذه الخطوة في تأثيرها تأثير خفض معدلات الفائدة لمحاولة رفع معدلات السيولة في الاقتصاد الصيني، لم تكف هذه الخطوة لتحقيق مستهدفات بنك الشعب، لذلك قام البنك بتخفيض معدلات الفائدة لأول مرة منذ 2008 بمقدار ربع في المائة ليصل معدل الإقراض إلى 6.3 في المائة ومعدل الفائدة على المودعات إلى 3.25 في المائة، ووفقا لبنك الشعب الصيني سيسمح للبنوك الصينية بأن ترفع معدل الفائدة على المودعات بنسبة 10 في المائة، وأن تمنح القروض بمعدلات تقل بنسبة 20 في المائة عن المعدلات السابقة. هذه التطورات الكبيرة (بالمقاييس الصينية) تعكس عمق المشكلة التي يواجهها النمو في الصين، والرغبة الحكومية دفعت مستويات السيولة في الاقتصاد المتراجع ودفعت معدلات النمو مرة أخرى. الجدير بالذكر أن الحكومة الصينية كانت قد رفعت معدلات الفائدة خمس مرات في السنتين الماضيتين بهدف السيطرة على التضخم، لذلك جاء خفض معدلات الفائدة الصينية مفاجئا للجميع، وهو ما يعكس عمق الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد الصيني حاليا.
لكن هل تنجح عملية تيسير السياسة النقدية في استعادة عزم النمو الصيني؟ الإجابة هي في أغلب الظن لا، لأن الشروط الدولية غير متاحة حاليا كي تنعكس إجراءات السياسة على الصادرات الصينية أخذا في الاعتبار تراجع النمو العالمي، خصوصا في أوروبا وبدرجة أقل في الولايات المتحدة، وفي رأيي، أن الصين ربما تحتاج اليوم بصورة أكبر من أي وقت مضى، إلى حزمة تحفيز مثل تلك التي نفذتها مع بداية الأزمة لضمان استمرار معدلات النمو على نحو مرتفع، بصفة خاصة تحتاج الصين إلى رفع مستويات الإنفاق الاستثماري في مشروعات البنى التحتية مثل خطوط السكك الحديدية، وتحسين شبكات الطرق التي توصل القرى بالمدن، وتشجيع عمليات شراء المساكن من خلال حزم التحفيز المختلفة.
تراجع النمو الصيني يحمل أخبارا سيئة للعالم أجمع، ولنا نحن الدول المنتجة للنفط بصفة خاصة، حيث أصبح سوق النفط حاليا رهينة للتطورات التي تحدث في الاقتصاد الآسيوي وفي الصين على نحو خاص، ذلك أن الصين هي الاقتصاد الوحيد تقريبا الذي يشكل في الوقت الحالي مولد النمو الأساسي في الاقتصاد العالمي، بعد تراجع دور الاقتصادات التقليدية بسبب الأزمة، فأوروبا ما زالت تصارع من أجل السيطرة على قنبلة الديون، والولايات المتحدة تعاني تراجع معدلات النمو بصورة واضحة بعد نفاد تأثير حزم التحفيز المالي والنقدي للاقتصاد الأمريكي. فالإحصاءات المتاحة عن التجارة الدولية تشير إلى أن الصين هي أكبر مستهلك ومستورد في العالم للمواد الأولية مثل الحديد والنحاس، وهي كذلك مشتر رئيس لمعدات المصانع في العالم وكذلك لسلع الاستهلاك الرفاهية، فضلا عن أنها ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، ولذلك يتوقع أن يكون تأثير تراجع النمو الصيني أكبر في منتجي المواد الأولية في العالم. أما الأثر في الولايات المتحدة فسيكون منخفضا بسبب انخفاض نسبة صادرات الولايات المتحدة إلى الصين كنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي التي تقل عن 1 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي، وعلى ذلك يمكن القول إنه إذا حدث ودخل الاقتصاد الصيني مثل غيره من الاقتصادات الكبرى في العالم مرحلة الانحسار، فستمر الدورة الاقتصادية في العالم أجمع بمرحلة سيئة للغاية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي