رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


النمو الاقتصادي يفقد بريقه

يقف العالم اليوم على مفترق طرق فيما يتعلق بمواصلة النمو الاقتصادي، المبني أساساً على مبادئ النظام الرأسمالي، الذي نشأ وترعرع تحت مظلة مصادر الطاقة الرخيصة، بدءا من الفحم الحجري إلى مصادر النفط التقليدي مُتدني التكلفة. وبعد أن بدأت أركان المصادر النفطية في الاهتزاز، عندما أصبح واضحاً أن هذه المصادر لها نهاية، وإن كانت ليست وشيكة الوقوع، بدأت الأسواق المالية تشعر أن شيئاً ما مرتبطا بعملية النمو سيحدث عما قريب. وما ضاعف من ردة الفعل السلبية على مصير استمرارية النمو الاقتصادي، التحول الكبير خلال السنوات القليلة الماضية إلى التوسع الهائل في الإقراض والتلاعب غير المنضبط بالأموال بين المصارف والمراكز المالية، بعيدا عن الإدراك أن الإسراف في أي أمر قد يقود إلى الضد. وقد لا يتفق معنا الكثيرون على أن الأزمات المالية التي تعصف بدول العالم اليوم لها علاقة مباشرة بارتفاع أسعار الطاقة، كنتيجة حتمية لقرب انخفاض المعروض النفطي، لكنها الحقيقة التي لا مراء فيها. ولأن الأمور الآن تسير في الاتجاه نفسه، وهو استمرار نقص الإمدادات النفطية، فإن أسعار مصادر الطاقة ستستمر هي الأخرى في طريقها إلى الارتفاع، ما يضاعف من تأثير الأزمة المالية ولا يساعد على حلها.
هذه المقدمة تقودنا إلى اللعبة السياسية التي يحاول بعض السياسيين في الدول التي تشهد مصاعب مالية التحايل عليها وإيهام الشعوب بأن لديهم حلولا سحرية لأزماتهم المالية المزمنة، ومنها اليونان كمثال. فهي من أوائل الدول الأوروبية التي أصبحت على وشك الإفلاس بسبب عجزها عن الوفاء بأرباح ديونها، ناهيك عن الديون نفسها التي فاقت طاقة الدولة، وذلك بسبب ما جنته عليها السياسات المالية التي كانت تعتمد إلى درجة كبيرة على القروض الخارجية بدلا من حصر الاعتماد على الناتج القومي. وهذه ليست ظاهرة تنفرد في ممارستها اليونان دون غيرها، بل معظم دول العالم تستخدم القروض كمصدر أساس لتمويل مشاريعها الإنمائية. وهناك بطبيعة الحال دول أوروبية أخرى، منها إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، تُعاني ضخامة الديون التي لا سبيل للتخلص منها إلا بتضحيات مؤلمة تتحملها الشعوب الناقمة على السياسيين الذين أوصلوا بلدانهم إلى هذا المستوى من الفوضى المالية.
ففي اليونان، اضطرت الحكومة إلى طلب المساعدة الخارجية من شركائها في عملة اليورو، الذين بدورهم حاولوا فرض شروط قاسية عليها، ليس أقلها تطبيق سياسة تقشف اقتصادي صارم حتى تسترد عافيتها. لكن الشعب اليوناني الضحية لم يقبل بتلك الشروط، وهو بطبيعة الحال لا يدرك أنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ وضعه الاقتصادي، إلا إذا اختار موقف العصيان على دفع الديون وليذهب أصحابها إلى الجحيم! وعليها إن هي اختارت هذا المسلك أن تخرج من عصبة دول اليورو، ومن ثم تتحمل وحدها مسؤولية حل مشكلاتها المالية، مع وجود شكوك منطقية في قدرتها على ذلك. حتى الآن لم تستطع أي حكومة جديدة في اليونان أن تأخذ بيد الاقتصاد إلى بر الأمان. وبلغ الجدل بين الأحزاب الذروة، كل يدعي أن لديه الحل الأمثل. لكن الذي يلفت النظر هو أن أحد الأحزاب اليسارية الذي لا يُحبِّذ سيطرة المقرضين وفرض شروطهم التقشفية على البلاد، وعد بأن يبني سياساته الاقتصادية من أجل الخروج من الأزمة الطاحنة على ''إقامة المشاريع التنموية''، التي من غير المتوقع أنها ستدر دخلاً مريحاً دون تدخل خارجي في شؤونها الاقتصادية. وهذا هو مربط الفرس. فالنمو الاقتصادي في عُرف زماننا هذا، لا بد من أن يرتبط بمصادر الطاقة الرخيصة، وهو زمن قد ولى. فهل معنى ذلك أن تلك القيادات، وأمثالها موجودة في كثير من بلدان العالم، لا يدركون أن فرص الاعتماد الكلي على الطاقة الرخيصة في طلب النمو الاقتصادي أوشك على الأفول؟ وأن عليهم أن يُجددوا قواعد اللعبة ويستعدوا لقبول عصر يعتمد اقتصاده على الإنتاجية التي لا تحتاج بالضرورة إلى الإسراف في تبني القروض المالية ذات الفوائد العالية والشروط المجحفة، وتستبدل ذلك بالتمويل الذاتي. فلن يعجز الاقتصاديون عن أن يطوروا نظريات اقتصادية حديثة وغير تقليدية تتناسب مع متطلبات البيئة الاقتصادية الجديدة، وتتعايش مع متغيرات أسعار الطاقة التي ستُفاجئ العالم بمستوياتها المرتفعة.
وهناك علاقة تاريخية بين نمو مصادر الطاقة النفطية الرخيصة وازدهار النمو الاقتصادي العالمي، ما يؤكد الارتباط الوثيق بين الظاهرتين. فيلاحَظ انكماش النمو الاقتصادي عندما ترتفع أسعار الطاقة، والعكس عند هبوط مؤشر السعر.
وربما يظن البعض أن ما نتحدث عنه لا يعدو كونه نوعا من التشاؤم، وهو أبعد ما يكون عن ذلك. بل هو الواقع الذي بدأت تظهر دلائله للعيان، وإن حاول بعض رجال السياسة إخفاء معالمه، لأن إثارة مثل هذه الحقائق قد يكون سبباً لإرباك مخططاتهم وسياساتهم والقضاء على مصالحهم وطموحاتهم. والحل ليس بمحاولة إنكار وجود بوادر ظهور أزمة طاقة قادمة، بل الأجدى والأفضل هو قبول الأمر الواقع والعمل على إيجاد بدائل تساند ما هو موجود اليوم قبل أن تتمكن منا أزمة مصادر الطاقة ولا يكون لدينا حينئذ حول ولا قوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي