الجمهورية الثانية في مصر .. تتعثر
تعيش مصر في هذه الأيام مرحلة من أدق مراحل تاريخها الحديث، حيث أفرزت انتخابات الرئاسة مرشحين (محمد مرسي وأحمد شفيق) لانتخابات الإعادة، وهما على درجة كبيرة من التناقض، حيث إذا نجح أحدهما فلن يكون ممثلاً حقيقياً للشعب، ما أدى إلى انقسام حاد في الشارع المصري، وهذا الانقسام يتعارض مع المبادئ الأساسية للثورة.
إن الفريق أحمد شفيق يقود المد الليبرالي برؤية براجماتية مقبولة عند فئة الشباب وعند رجال الأعمال والأقباط، ولكن يؤخذ عليه أنه من المحسوبين على الفلول، بل هو جزء لا يتجزأ من نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ولذلك فإن الشباب الذين يؤيدونه يخشون أن يعيد اختراع النظام السابق.
بينما محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة وممثل الإخوان المسلمين يحظى بتأييد كل من هو ضد النظام السابق، وكل ذي نزعة إسلامية، وهم في المجتمع المصري ُكثرٌ، ولكن في المقابل فإن الليبراليين العلمانيين يرفضونه لأنه ــ من وجهة نظرهم ــ يمثل الرجعية المصرية، كما إن الأقباط ينظرون إليه كعدو حقيقي لهم.
ومن ناحيته فقد تعهد مجلس الشعب بالقصاص للشهداء ومحاكمة المسؤولين عن إتلاف أدلة الاتهام، وفي الوقت نفسه هدد أسر الشهداء باللجوء إلى القضاء الدولي للحصول على حقوقهم من القتلة.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده الفريق أحمد شفيق قال إنه لا يعتبر نفسه محسوباً على النظام السابق، وإنه يمد يده لكل المصريين، وإنه يتعهد بتنفيذ كل مطالب الثورة، وبالذات فيما يتعلق بحقوق شهداء الثورة، وإنه يوافق إجمالاً على وثيقة العهد التي طرحتها القوى السياسية، ولكنه تحفظ حينما قال إن بعض نصوص الوثيقة يحتاج إلى مناقشة، ودعا القوى السياسية إلى التعامل مع الوثيقة كإطار سياسي عام نتحرك جميعاً فيه.
أمّا محمد مرسي فقال في مؤتمره الصحفي إنه غير راض عن الأحكام التي صدرت عن محكمة جنايات القاهرة ضد الرئيس السابق وبطانته، وإنه إذا بلغ الرئاسة فسيعيد محاكمة الرئيس السابق وطاقم حكومته، ويتيح للقضاء المصري الشامخ أن يصدر حكمه القضائي العادل تجاه من ضيعوا مصر وأفسدوا الحياة السياسية فيها، ورغم أن أحمد شفيق حاول أن يلتف حول وثيقة العهد إلاّ أن محمد مرسي لم ترق له الوثيقة، التي اعتبرها قيداً مسلطاً عليه.
ولقد زحفت المظاهرات التي انفجرت في شوارع القاهرة إلى دار القضاء العالي، محتجين على الأحكام التي صدرت من محكمة الجنايات، ولقد وضح أن القضاء المصري أصبح في موقف صعب أمام الهجوم الآتي من كل حدب وصوب، ومعروف أن القضاء هو القوة الوحيدة التي لم يصلها الثوار، بزعم أن القضاء المصري عالٍ وشامخ ولا تطوله الألسنة الحداد.
إذن الشارع المصري سيشهد غياباً ملحوظاً في انتخابات الإعادة، وسيأتي رئيس لا يمثل غالبية الشعب المصري، وإذا كان الرئيس لا يمثل الشعب فإن الثورة ما زالت قائمة حتى تتحقق كل مطالبها.
وإزاء تناقضات الموقف، فإن تحالف الأحزاب السياسية في مصر أصدر بياناً، طالب فيه المرشحين محمد مرسي وأحمد شفيق بضرورة التوقيع على وثيقة العهد، التي يتعهد فيها الرئيس القادم بتنفيذ جميع مطالب الثورة، وأهمها قيام حكم ديمقراطي مدني يمثل جميع فئات الشعب المصري بشقيه الإسلامي والمسيحي، كذلك يتعهد بتطبيق العدالة بين جميع أفراد الشعب المصري دون استثناء أحد، ثم الاقتصاص لدم شهداء الثورة، والحفاظ على الوحدة الوطنية بشقيها الإسلامي والمسيحي.
وإذا كان هذا هو المشهد بالنسبة لجولة الإعادة، فإن صدور الأحكام ضد الرئيس مبارك وأركان حكمه متزامناً مع موعد انتخابات الإعادة أشعل جذوة الاعتراض لدى فصائل كبيرة من الشعب المصري، الذين هرعوا إلى الميادين يعبرون عن اعتراضهم على الأحكام (السياسية!) التي أصدرها المستشار أحمد رفعت، ويطالبون بأحكام (قضائية!) تصل إلى إعدام الرئيس السابق ونجليه وبقية أركان وزارة الداخلية.
وفي ضوء هذه الأحداث الساخنة التي تشهدها الميادين في المدن المصرية، فإن المراقبين يقولون إن الثورة المصرية لم تنتهِ وهي ما زالت مستمرة، بل يتوقعون دخول مصر في عدد من الأزمات الطاحنة التي تحول النجاح الذي حققته الثورة إلى وبال يتهدد استقرار أركان الدولة العربية الأكبر في الشرق الأوسط.
والخلاصة أن مصر تمر بمنعطف خطير، ويبدو أن الخروج من نفق الأزمات التي تلتف حول خاصرتها في هذه الأيام لا يبعث على التفاؤل، وهي لذلك تحتاج إلى عقول الحكماء كي يخرجوها من المآزق التي تتناتشها من كل جانب، فالإخوان يرومون السيطرة على الحكم، لا سيما بعد أن سيطروا على مجلسي الشعب والشورى، والليبراليون يتطلعون إلى تصميم بناء مدني يقوم على أساس الديمقراطية الغربية، مع الاهتمام بحقوق المواطنة لكل مصري.