القطار الجديد وغياب العقلانية
الذي يُتابع ما يُكتب في صحفنا اليومية عن القطار الجديد الذي توقف عن العمل بعد أشهر قليلة من بدء إدخاله الخدمة بسبب خلل طارئ في برمجة أجهزة التحكم لم يكن مُتوقعا حدوثه، يُصاب بالكثير من الدهشة والاستغراب من الطريقة التي يطرح بها بعض الكتاب والمعلقين آراءهم وعدم رضاهم عما حصل، وهو أمر طبيعي بالنسبة لأي مرفق جديد أو منشأة حديثة. يقول أحد المعلقين إن الخلل إداري وسوء تخطيط. ما هذا الكلام يا رجل، هل اطلعت على دراسة وإعداد المشروع؟ وينقل أحدهم عن مسؤول في المؤسسة العامة قوله "إن القطار لم يكن ملائما للمناخ الصحراوي". ولا نتوقع أن يكون مثل هذا التصريح صدر عن مسؤول، لأنه ليس له أي معنى، وهي أصلاً مُصممة لتعمل في الصحراء. ويتجرأ آخر بالقول "فساد ما بعده فساد"، أي فساد تتحدث أنت عنه؟ هذا اتهام من دون دليل؟ ومثله من يطلق اتهاماً مشابهاً ويقول: شوفوا حسابات المسؤولين عن المناقصة! عيب والله أن نتحدث بما لا نفقه. ولو كان ما حدث للقطار، وهو لا يزال في مرحلة التدشين، في بلاد غير بلادنا لما سمعت صوتاً واحداً يتساءل عن مصيره وهو أصلاً تحت أيد أمينة. ولو كانت جميع الكتابات التي تُنشر في الصحف عن هذه المسألة تتصف بالعقلانية وحسن النية والنقد الهادف لما لفت ذلك الانتباه. لكنها، مع الأسف، كما رأيتم، كانت مملوءة بالاتهامات والتخمينات وسوء الظن التي كلها لا تستند إلى دليل، بل هي محبطة ومهينة في بعض الأحيان. وهذا يعكس ثقافة المواطن الذي يعتقد أنه هو وحده الأمين المخلص والمُلهَم الذي لا يُخطئ، أما الآخر في نظره، فعليه مآخذ!
ونحن نقول، تمهل أخي المواطن، هل تعلم كم من المجهود المضني والتخطيط وعمق الدراسة التي سبقت إقرار هذا المشروع؟ دعك من هذا، فلربما أن أغلب من كتبوا عن الموضوع لم تُتَح لهم فرص العمل على إنشاء المشاريع الكبيرة ويدركوا كم هي الصعوبات والعقبات التي عادة ترافق بداية أي مشروع. فبعد قبول فكرة إضافة قطار سرعته ضعف السرعة الحالية، هل يدرك الكثيرون مدى صعوبة الحصول على التمويل اللازم من الجهات المسؤولة وبالقدر الذي يتطلبه المشروع؟ البعض يظن أن الأمر سهل وما على المؤسسة العامة للخطوط الحديدية إلا التوجه إلى البنك لضمان وجود المبلغ حتى يستطيعوا عرض مشروعهم على مُصَنعي القطارات. أبدا ليست بهذه السهولة والبساطة. فالأمر يحتاج إلى مجهود إضافي مضاعف من أجل إقناع الجهات الممولة في الدولة بالجدوى الاقتصادية للمشروع. وبعد أن يكتمل إعداد جميع المواصفات الفنية والتشغيلية التي تشمل العوامل البيئية ومتغيرات الطقس والمناخ على مدار السنة، وهو عمل مُضن ويحتاج إلى خبرة طويلة، ومن ثم تُرسل المواصفات الكاملة إلى عدة شركات مُتخصصة في هذا المجال في أكثر من دولة. والمطلوب تقديم عروض تتضمن قبول جميع شروط المواصفات دون أي استثناء، مع بيان الحد الأدنى للتكلفة الكاملة، التي عادة تشمل أيضا التشغيل التجريبي والتدريب وقطع الغيار.
وعندما تتأهل شركة ما، من بين عطاءات أخرى، ترسو المناقصة عليها، بعد التأكد من أن لديها الإمكانات الفنية والبنية التحتية التي تؤهلها لصناعة القطارات. وتبقى مسؤولية نجاح التشغيل في عنق الشركة المُصِّنعة حتى يتم قبول واستلام المشروع بواسطة الجهة المُخوَّلة في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية. وفيما يخص مشروع القطار الجديد الذي قررت المؤسسة إيقاف تشغيله حتى تتم معالجة الخلل الفني الذي تعرَّض له أثناء فترة التدشين، فهو أمر طبيعي وتصرف حكيم. وقد ذكر المسؤولون من قمة الهرم حتى مستوى العلاقات العامة وفي أكثر من مناسبة أن المؤسسة لم تدفع إلا قسطاً واحداً من مُجمَل التكلفة، مع أن معظم المعدات والأجهزة وصلت إلى المملكة. وأنها لن تُغلق الصفقة إلا بعد تكملة الإصلاح وضمان سير القطار من دون أي عوائق فنية. ومن البديهي أن الشركة المصنعة تبذل الآن جهودا جبارة في سبيل تذليل كل العقبات التي من الممكن أن تحول دون قبول تشغيل القطار بموجب المواصفات الأصلية. فهي أيضا حريصة على سمعتها وعلى الوفاء بجميع التزاماتها.
ولعله من حسن الصدف أن يتميز هذا المشروع بالذات بشفافية منقطعة النظير. فالمسؤولون في المؤسسة أبدوا استعدادهم، حسبما أعرف، لإطلاع أي مواطن مُتخصص وحسن النية أن يطلع على جميع مراحل الإعداد والمناقصة والشؤون المالية للمشروع. وبعد ذلك، هل هناك شك في أمانة وإخلاص العاملين على المشروع وبدون دليل على سوء النية؟ نحن نحسن الظن بكل من شكك في نزاهة الجنود المجهولين الذين سهروا الليالي وأمضوا الساعات الطويلة في الدراسة والبحث من أجل إخراج مواصفات مشروع متكامل للقطار الجديد. وسنظن بأولئك الكتاب الخير بأن ما دفعهم إلى الكتابة بأسلوب سلبي المظهر هو الغيرة على مصالح بلادهم. وهذا شيء جميل، لو لم يتعرضوا ولو بطريق غير مباشر إلى المسؤولين في المؤسسة والتشكيك في نزاهتهم وسلامة نواياهم. إلا إذا كانت ثقافة مجتمعنا تُدين كل مواطن بالغش والفساد والرشوة وخيانة الأمانة، حتى يُثبت براءته، فهذا أمر آخر.
ويتساءل البعض، لماذا لا تكون سرعة القطار الجديد أعلى بكثير من 200 كيلو متر في الساعة؟ والجواب بسيط. فطبيعة البنية التحتية الموجودة الآن لا تسمح بسير قطار تتعدى سرعته ما يقارب 200 كيلو متر في الساعة، وهو يسير بواسطة وقود الديزل. والقطارات التي نشاهدها خارج المملكة تسير بسرعة كبيرة تستخدم التيار الكهربائي. وهذا من الممكن إيجاده هنا في المستقبل - إن شاء الله، وعلى وجه الخصوص، عندما تتوافر لدينا طاقة كهربائية كبيرة من الطاقة الشمسية - بإذن الله. ومهما تكن نظرة بعض المواطنين إلى مشروع القطار الجديد التي يشوبها شيء من التشاؤم وعدم الرضا، فإننا نؤكد لهم أن تشغيل القطار الجديد يُعتبر قفزة نوعية بكل المقاييس إلى الأمام، بعد 60 عاماً من بدء مسيرة القطار القديم. ولا نشك على الإطلاق في أن في جعبة المسؤولين في المؤسسة للخطوط الحديدية الكثير من المشاريع والتطوير وربط المدن ببعضها بشبكة سريعة من وسائل النقل. لكنها البيروقراطية أو تعقيد سير المعاملات وبطء الموافقات بين أجهزة الدولة هي التي تعيق، وأحياناً تقتل المشاريع.