الإنجازات الحكومية بين بيانات الضبط والمعالجة
اختلف اثنان من الزملاء فيما إذا كان ارتفاع أعداد الحالات المضبوطة وأعداد الحالات المعالجة لأي جهاز وفي أي مجال مؤشرًا إيجابيًّا أم سلبيًّا لأداء الجهاز المعني، خصوصًا إذا كان الجهاز منظمًا يقوم بالتنظيم والتطوير والحماية معًا، ففي حين قال الأول، وهو موظف مسؤول في جهاز حكومي مُنظِم له صلاحيات التنظيم والتطوير والضبط والمعالجة: إن ارتفاع أعداد الحالات المضبوطة والمعالجة من خلال الغرامات أو الصلح أو إحالتها للجهات القضائية يعتبر إنجازًا يوضح أداء الجهاز، قال له الثاني: إن هذا مؤشر يثبت سوء التخطيط وضعف الفاعلية والكفاءة، حيث تركيز الجهود والإمكانات وهدر الوقت على الضبط والمعالجة الأكثر تكلفة وعدم التركيز على الوقاية والمنع الأقل تكلفة والأكثر فاعلية وإنسانية أيضًا.
سألت الثاني الذي يرى أن الإنجاز يجب أن يقاس بمؤشرات الوقاية ومنع الحدوث لا الضبط والعلاج: هل يمكن أن توضح لي ذلك بمثال؟ فقال: ما رأيك، أيهما أفضل إنجازًا لو أن تقرير الدفاع المدني لعام 1433هـ- على سبيل المثال- قال إنه نتيجة لتنفيذ خطة وقائية للدفاع المدني عملت في مسارات عدة منها التوعية، ومنها التشدد في معايير السلامة في الأبنية الخاصة والعامة، ومنها منع استيراد المواد التي تسبب الحرائق إلى غير ذلك خفضنا الحرائق من ثلاثة آلاف حريق ينتج عنها 200 حالة وفاة وخسائرة مادية تصل بين مليارين إلى ألفي حريق نتجت عنها 50 وفاة وخسائر مادية وصلت إلى مليار ونصف المليار، أو أن التقرير قال: تعاملنا هذه السنة مع 3500 مقارنة بثلاثة آلاف حريق العام الماضي تم إطفاؤها بالكامل في أوقات معيارية، ولم تمتد إلى المناطق المجاورة، ولله الحمد والمنة، وإن أصحاب المنشآت هم السبب الرئيس في هذه الحرائق.
قلت له: بكل تأكيد التقرير الأول أفضل بكثير؛ إذ إنه يشير لتخطيط فاعل أدى إلى انخفاض الحرائق وتكاليفها وخفض تكاليف وجهد الدفاع المدني، أما الثاني فيشير إلى استجابة وردود أفعال ومعالجة للحرائق، وهو أمر مكلف وإن بدا لي أن الدفاع المدني قام بإطفاء حرائق أكثر من السنة السابقة، فقال: هذا يشير بكل وضوح لعدم مصداقية ودقة بيانات الإنجازات القائمة على الضبط أو التحديد والمعالجة أو التعاطي السليم معها، المطلوب منع الحدوث بخطط وقائية فاعلة عالية الكفاءة.
وأضاف وكي أبين لك أكثر لنأخذ ''ساهر'' مثالاً الذي جاء لضبط المرور ومنع الحوادث الناشئة عن السرعة وتجاوز الإشارة الحمراء أو الخضراء بسرعة عالية، لا يمكن أن نقول إن نظام ساهر أنجز بكفاءة عالية إذا أشار إلى ارتفاع ضبط المخالفين وإلى كم النقود المحصلة من المخالفين، إنما نقول إنه أنجز إذا انخفضت مخالفات السرعة وتجاوز الإشارة الحمراء إلى أدنى ما يمكن وفق النسب المعيارية كما هو الحال في الدول المتقدمة التي جئنا بأنظمة الضبط الإلكتروني منها، وانخفضت الوفيات والخسائر المادية الناشئة عن هذه المخالفات، وأصبح السير أكثر انسيابية وأمانًا، أما أن نرى فلاشات ''ساهر'' لا تهدأ على كل طريق وعند كل إشارة فهذا دليل قاطع على أن جهاز المرور فشل في الحد من المخالفات، ونجح في ضبطها وتحصيل أموال المخالفين الذين توقفت حياة بعضهم بسبب عدم قدرتهم على السداد، والفشل قد يعود إلى ضعف التوعية المرورية الشاملة كالتي نفذت قبل أكثر من تسع أو عشر سنوات، وقد يعود لسهولة الحصول على رخصة القيادة دون المرور باختبارات جادة تغرس الوعي بما يتأهل لقيادة السيارة، وقد يعود لضعف منظومة القيم والمفاهيم الأخلاقية بسبب ضعف وزارة التربية والتعليم تربويًّا إلى غير ذلك من الأسباب التي يجب أن يعالجها جهاز المرور كي يحقق الإنجاز الحقيقي المنشود.
وأقول إن رأي الزميل الثاني أكثر من مقنع، فالإنجاز لا يقاس بالكم (عدد الضبطيات، عدد الحالات المعالجة) بقدر ما يقاس بالوقاية والمنع، وليس أدل على ذلك من نجاح استراتيجية التطعيم للوقاية ومنع الإصابة بالأمراض المعدية والقضاء على تلك الأمراض بأقل التكاليف وبإنسانية عالية مقابل فشل استراتيجية ضبط الحالات المصابة ومعالجتها المكلفة ماديًّا وغير الفاعلة وغير الإنسانية، حيث تعبث تلك الأمراض بالمرضى لتبقى آثارها طول حياة الإنسان.
الأجهزة المعنية بمكافحة المخدرات على سبيل المثال تعلن أكثر من مرة ضبط كميات كبيرة من المخدرات، ولا نشعر بأهمية ذلك الإنجاز؛ لأن حالات التعاطي في ازدياد، وتكاليف معالجتها في ازدياد أيضًا، والمعاناة الإنسانية لأهالي وكل ذي صلة بالمتعاطين في ازدياد أيضًا، ومن ثَمَّ فنحن نريد مقاييس أكثر دقة تبين لنا المنجز بتخفيض أعداد أو نسب المتعاطين وهو الأهم، ولو انخفض المتعاطون بسبب ازدياد الوعي لما وجد مهربو ومروجو المخدرات سوقًا رائجة لهم في بلادنا.
هناك أيضًا بيانات إنجاز تختلف عن بيانات الضبط والمعالجة وهي بيانات الإنفاق، حيث يتحدث المسؤولون عن إنفاق مليارات على التعليم والصحة والإسكان والطرق والكباري والبنى التحتية وغيرها، ولم تعد تعني المواطن هذه الأرقام، بل إنها أصبحت أرقامًا مستفزة في بعض الأحيان، إذ يسمع المواطن بهذه المليارات ولا يلامس أثرها واقعًا معاشًا، وإن اعتذر البعض بالوقت، المواطن يريد إنجازًا يتحدث عن سد الفجوة والوقاية والحد من والمنع، نعم نريد أن نعلم مستوى تعليمنا وخدماتنا الصحية والوضع الإسكاني وجودة الطرق والبنى التحتية نوعيًّا مقارنة بالدول الأخرى، وأتمنى على القيادة أن تلزم الأجهزة التنفيذية بهذه المقاييس؛ لأن المقاييس الأخرى خادعة للكل.
ختامًا؛ أتطلع إلى أن تلعب مؤسسات التعليم العالي مثل الجامعات ومعهد الإدارة دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل وعي المسؤولين تجاه المقاييس والمؤشرات، وتحفيزهم لاعتماد المناسب منها الذي يظهر الحقيقة ويلامس الواقع لنصل إلى أفضل كفاءة للإنفاق الهائل الذي تنفقه حكومتنا الرشيدة لتحقيق أفضل مستويات العيش الكريم والرفاه للمواطن.