هل ما نقدمه لاضطراب التوحد كافٍ؟ (1 من 2)
العناية بالطفل منذ الولادة وحتى البلوغ قبل أن يكون مسؤولا عن نفسه وتصرفاته بشكل كامل هي في المعنى الحقيقي ''عناية بالمجتمع''. هذا المجتمع إذا ما بني بتركيبته ومكوناته ومقومات حياته الطبيعية على استراتيجية بخطط واعدة وآليات تنفيذية مجودة، ستكون الهياكل التنظيمية العمود الذي ترتكز إليه الجهود، وسيكون العمل في تناغم كبير لا يقبل المساومة في أي جانب منه. عندها ستكون المظلة التي تحمي بلوائحها المضطرب ومقدم الخدمة والوسيط ومراقب السياسات والإجراءات، شاملة في ظلها ما يكفل للمصابين بهذا الاضطراب وغيره أيضا (إذا ما اتبعت نفس الآلية) حياة هنيئة كاملة كما ينبغي لهم. على النقيض إذا ما تكشفت في المجتمع معوقات للتنمية والإصلاح وعند تناولها أصبح الاجتهاد سائدا والتخصص مهمشا، فإن الغالب هو أن يكون هناك قفز لتسجيل إنجازات في ظل غياب الشمولية في الفكر والحلول الناجعة، وما نأمل أن نحققه سيكون ما نخاف ألا نصل إليه ألبتة، بل تكون الخسائر مستديمة.
التوحد مثله مثل باقي الإصابات أو الاضطرابات المعروفةDevelopmental Disorders حيث إن كثيرين لا يميلون إلى تسميتها ''أمراضاً''، أصبح في مركز الاهتمام العالمي بتزايد نسب الانتشار أو الاكتشاف. بمراجعة كل الجهود التي بذلت في سبيل التعامل مع هذا الاضطراب في المملكة العربية السعودية، لم أجد استراتيجية واضحة يمكن أن تجعلنا نتفاعل باحترافية وتخصصية، وحسب خطط مرسومة، وبآليات موحدة إلى حد بعيد مع هذا الاضطراب. فلا أهداف معلنة على مستوى المملكة نشرتها وزارة أو جهة خُولت بأن يكون زمام الأمور في يدها. وبالتالي لا نعرف كيف يمكن أن نتعامل بمعيارية وجودة ونصل محققين ما هدفنا إليه. من ناحية أخرى ما زال الاندفاع الشخصي هو ما يعزز البرامج ويوجه الجهود، وهذا بالطبع انفعال ولا يمكن أن يسجل كأفعال لأنها تحركات فردية لمشكلة اجتماعية جماعية.
لقد وصل الاهتمام بـ ''التوحد'' إلى تحديد يوم عالمي له (الثاني من أبريل من كل عام)؛ حيث تُراجِع في هذا اليوم كل بلاد الدنيا ما تقدمه للمصابين باضطراب التوحد وما يمكن أن تستفيد منه من خلال الدراسات الميدانية والنظرية والسريرية. من ناحية أخرى تعكف المؤسسات المدنية على بذل مزيد من الجهود لفهم أكثر لأسبابه وطرق علاجه ووسائل التعامل مع التوحدي صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى. إن محاولات وقف الزيادة العددية والنسبية في الإصابة به على مستوى الدولة بالنسبة للدول العربية والخليجية بالذات، ما زال في مستوى متأرجح إذا ما قورن بما يُعدُّ له ويُقدَّم في دول الشرق الأقصى والغرب. في هذه الحالة هناك حاجة ملحة لأن نبحث عما يقربنا مع بعضنا البعض ويوطد الأواصر والصلة بين المجتمعات.
في هذا المقال سأترك الحديث عن الإحصاءات والأرقام والمصطلحات والتعاريف للمراجع والمقالات العلمية والإعلامية الورقية منها والإلكترونية، مركزا على كيفية التقدم نحو تعامل جاد ومنهجي مع هذا الاضطراب الذي لا يُقدِّرُ آثاره على حياة التوحدي إلا الذي عاش أو يعيش مع توحدي له به صلة قرابة. مع أن السبب في الكتابة هو حجم المشكلة المتزايد، إلا أن عديدا من الجهات بادرت بتوضيحه وتفصيله والإسهاب فيه، ونريد أن ننتقل إلى مناقشة ما بعد ذلك لنكون عمليين.
بداية، وبصفة عامة، هل كشف أو ظهور الإحصاءات الخاصة بالأطفال من حيث المرض والعنف والانحراف والاستقامة والإبداع وغيرها من الظروف نتيجة تحسن آلية جمع البيانات أم انفتاح وسائل الإعلام مواكبة للأحداث العالمية أم زيادة فعلية للحالات وواقع مرير نعيشه؟ هذا السؤال المركب يجعلنا نفكر في أي قضية تحتاج إلى اهتمام المجتمع بأن نتأمل المتوافر من المعطيات لفهم مسببات المشكلة ومحاولة تحديد حجمها. ثم لا بد أن نعرف إن كانت هذه المعطيات فعلا زيادة في النسب سببها النمو السكاني (وهي علاقة مطردة)، أم قصور الجهات المعنية من مقدمي الخدمات بأنواعها المختلفة، أم إعلام لم يبادر بدور في وقت كان لا بد أن يوجد فيه. وأخيرا من الضروري أن نحدد ما إذا كان للتقشف الاقتصادي أو الأزمات المالية أو التخطيط الاقتصادي دور في تشكيل الوضع الصحي وتوجيهه.
يلي ذلك تسليط الضوء على الموضوع من وجهة نظر علمية. عادة ما يكون ذلك بطرح أسئلة وهي في هذا الموضوع مثل: هل نستطيع بقدراتنا الطبية أن نحدد فعلا ونميز بين التوحد وأي أمراض لها أعراض مشابهة يمكن أن تجعلنا نقع في الخلط في التشخيص؟ هل لأننا ما زلنا نجهل كثيرا عن هذا الاضطراب وغيره، لم نستطع بعد الوصول لتكامل الجهود وتحديد الأدوار والسير بشكل صحيح أو أقرب من ذلك؟ هل هناك حاجة إلى اختبارات وتجارب استرشادية، أم لدينا ما يكفي من النشر العلمي الذي يجعلنا نتساوى في البيانات مع أقصى الأرض وأدناها؟ هل لدينا الخبراء الكافين لبدء الدراسات الخاصة بوضع استراتيجية لرعاية المصابين بالتوحد، أم ما زلنا في حاجة إليهم وبأعداد كبيرة، وفي تخصصات فرعية متعددة لضمان شمولية ولملمة الموضوع في أقصر وقت ممكن وبدء الرسالة التي يمكن أن تتبناها الجهات المعنية بالموضوع بالشكل المأمول؟ وللحديث تتمة.