إسقاطات مصرفية تحت الرادار

إلى وقت قريب كان القطاع المصرفي أحد الجوانب اللامعة في النظام المالي والاقتصادي في المملكة، حيث استطاع تمكين نظام ليس لتمويل الصناعة والتجارة والمقاولات فقط، بل لنقل التقنية والمعرفة وإعداد الكوادر، ولكن يبدو أن عملية التطوير بدأت تتعطل في نواح كثيرة. مركزية القطاع المصرفي تجعل من تعطله أمراً خطيراً، فسهولة تمرير المال في النظام الاقتصادي مثل تمرير الدم في الجسم. ولذلك علينا الوعي واليقظة للحفاظ على حيوية القطاع. من هذا المنطلق لفت نظري نواح عدة لم تلق الاهتمام الدقيق والمتواصل من مؤسسة النقد أو مجلس إدارة المؤسسة.
الملاحظة الأولى، هي تراجع ملحوظ في اختيار القيادات المصرفية الأخيرة وفي مصارف عدة، وخاصة التي في أغلبها عائلية أو ذات ملكية حكومية مؤثرة. فبدأ يصل إلى المسؤولية الأولى في البنوك مَن لا يملك التجربة والمعرفة وهذا أمرٌ مذهلٌ في توظيف سلطة المؤسسة على الموافقة أو عدمها على تعيين هؤلاء وحتى الصفين الثاني والثالث أحياناً، فالسيرة الذاتية لهؤلاء لا بد أن تكون معلنة. في جزئية من هذا "التسامح" المحسوب أو غير المحسوب هناك مَن يبقى في الوظيفة نفسها لمدة تزيد على عقدين دون إضافة قيمة أو معرفة له أو للمصرف.
الملاحظة الثانية، هي مدى محدودية إدارة الرقابة المصرفية أفقياً ورأسياً، فالمختصون عددهم قليل وفي الغالب لم يعطوا التدريب الكافي، ولذلك ليس لديهم القدرة على نقاش ومتابعة قطاع خاص نشط يتعلم سريعاً من المجتمعات الأخرى في ظل رقابة حكومية عرفية. فمثلا أثبتت الأزمة المالية العالمية الأخيرة مدى ابتعاد اقتصاد المملكة عن الأزمة، ولكن القطاع المصرفي حقق خسائر كبيرة بسبب ضعف إدارة المخاطر والائتمان، ولم يدفع أحد في هذه المصارف فاتورة خسارة المليارات، خاصة أن جزءاً مؤثراً من هذه الخسائر تحمله أصحاب القروض الاستهلاكية والذين يدفعون أسعاراً "عالية" في ظل ضمان القرض من خلال تحويل الراتب وهامش ربحية غير متناسب مع المخاطر.
الملاحظة الثالثة، إن كثيراً من المصارف لا يزال يسجل الرهونات العقارية تحت أسماء كِبار الإداريين فيها وكأن النظام المالي والقضائي والتنفيذي في المملكة لا يعترف بالشخصية الاعتبارية للمصارف بعد تجربة ثلاثة أجيال. بل إن هناك قضايا مصرفية وصلت القضاء ولا تزال العقارات تحت مديري مصارف غادروا وظائفهم.
الملاحظة الرابعة، تدني مستوى التدريب في بعض المصارف، ويلفت النظر هنا تجربة "سامبا" فبعد أن باع "سيتي بنك" حصته تدنت المهنية والتدريب الفاعل الموجّه بعد أن أصبح البنك ذا طابع ملكية حكومية وإدارة لم تتوقف عن تكرار أنها وطنية صرفة، كأن هذا بديلٌ عن العمل المصرفي المهني. بدت "سامبا" وكأنها تلاحق تجربة صندوق التنمية الصناعية بعد خروج بنك شيس منهاتن في تحجيم دور الكفاءة على حساب العلاقة. لم تعد "سامبا" مدرسة مصرفية، بل مؤسسة ضيقة المنفعة الكلية للمجتمع، ولـ "سامبا" شركاء في تجاهل السعودة الفاعلة.
حيوية القطاع المصرفي لها مقومات أساسية بدت وكأنها تضعف بسبب تراجع المؤسسة عن مسؤولياتها المهمة، وقد تكون جزئياً تعبيراً عن عدم قدرة المؤسسة على تطوير أجهزتها وأنظمتها الداخلية. لن تستطيع المملكة الحفاظ على مكانها مع دول العشرين من خلال المساهمة في صندوق النقد الدولي فقط، بل من خلال تطوير وتحديث أجهزتها الفاعلة والمهمة مثل مؤسسة النقد. هذه الملاحظات تدل على أن المؤسسة لم تفعل الكثير في القضايا المفصلية وارتأت التعامل مع بيانات وكشوف محاسبية تفتقد التركيز على المقومات الأساسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي