مستقبل أسعار النفط
على الرغم من أن النفط الخام والمشتقات النفطية تعتبر من السلع التي تخضع، وبوجه عام، لقانون العرض والطلب، إلا أن ديناميكية تذبذب أسعارها ظلت طوال السنين الماضية خارج سيطرة أي جهة كانت، سواء من الجهات المصدرة أو من الدول المستوردة. فهناك عوامل كثيرة، سياسية واقتصادية، وربما نفسية، قد تلعب دوراً كبيراً في رفع وخفض أسعار النفط. فعلى سبيل المثال، صعود وهبوط قيمة الدولار الأمريكي والأحوال السياسية في مناطق الإنتاج والكميات المعروضة للبيع بالنسبة إلى كميات الطلب، مجتمعة أو منفردة، تُؤثر دون شك في مستوى الأسعار سلباً أو إيجاباً. فإذا تعرض الدولار لضعف ملموس أمام العملات الرئيسية الأخرى، فغالباً ما يُؤدي ذلك إلى صعود الأسعار. وعندما تحدث قلاقل سياسية جوهرية في مناطق الإنتاج، كالتي حصلت في ليبيا، وكما هو حاصل اليوم في منطقة الخليج العربي حول موضوع التهديد الإيراني بإغلاق مضيق هرمز، ففي الغالب أن الأسعار تميل إلى الارتفاع. هذه العوامل تظهر لمدة زمنية محدودة، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها عندما يعود الوضع إلى سابق عهده. وفي حالات نادرة، تتأثر أسعار النفط قليلاً مع صعود أو هبوط مستويات التخزين الاستراتيجي للدول الكبرى، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر ليس له أهمية تُذكر.
ولكن الذي يُهدد الاقتصاد العالمي ويُنذر برفع أسعار النفط ربما إلى مستويات قياسية لا رجعة فيها هو استمرارية زيادة الطلب على الطاقة وعدم قدرة المنتجين على تصدير الكميات الكافية من النفط، وهو أمر وارد وقريب الحدوث. ولعل الكثيرين منا يفهمون من تصريحات بعض المهتمين بالشؤون النفطية أن هناك ما يُطلق عليه ''السعر العادل''، وهو تعبير يصعب هضمه. فقد كنا نسمع مثل هذا الكلام منذ أن كان سعر برميل النفط لا يتجاوز الـ30 دولاراً. ولم نسمع قط أن للذهب الأحمر، ولا لأي مادة أخرى، سعراً عادلاً. فلماذا يكون ذلك من خصوصيات مادة ناضبة مثل النفط؟ نحن نعلم أنه كلام لا يُقدِّم ولا يُؤخر، ونعلم أيضا أن أسعار النفط لا تستطيع أي جهة أن تتحكم فيها على المدى البعيد، إلا ربما بإيجاد مصادر إضافية للطاقة، وهو ما لم نشاهد أي جهود جادة نحو تحقيقه.
هذه الحقيقة لا تخفى على كثير من المتخصصين وصناع القرار، وهم بدون أي شك جميعاً مُتَّفقون على أن النفط التقليدي الرخيص له عُمر محدود. ولكن المؤسف هو أن الذين يمسكون بزمام الأمور، ومنها الدول الصناعية الكبرى، يحاولون قدر المستطاع تجاهل الوضع وكأن الأمر، على خطورته، لا يعنيهم. ولعله من محض الصدف أن يتلازم قرب احتمال حدوث نقص في الإمدادات النفطية مع بروز الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة التي تحاول كل دولة معالجتها بطريقتها الخاصة. وليتهم يدركون أن المسألة أكبر من مجرد تحسين مؤقت لوضع عودة النمو الاقتصادي، في ظل صعود مستمر لأسعار الطاقة. فالاقتصاد العالمي الهش والنظام الرأسمالي المبني على أسس النمو المستمر مُهدد بالانهيار إذا فقد ميزة توفر مصادر الطاقة الرخيصة بالكميات المطلوبة. وهذا أمر محتوم إذا لم ندرك واقع الحال ونستثمر في مصادر الطاقة المتجددة قبل فوات الأوان من أجل تخفيف عبء الاعتماد شبه الكلي على المصادر النفطية.
ونحن نعلم أن هناك جهودا جادة ومُخلصة من دول الإنتاج والتصدير، تُحاول أن تتفادى حدوث ارتفاع حاد في أسعار برميل النفط، وهو المصدر الرئيس الآن للطاقة، وذلك من أجل تجنيب العالم الوقوع في خضمِّ كارثة اقتصادية لا يمكن تحت الظروف الحالية الخروج منها. ولكن طرفا واحدا، مهما كانت إمكانياته وتضحياته، لا يمكن له وحده أن يقف في وجه تيار النضوب الطبيعي للمصادر النفطية ولا أن يجد حلاً مقبولاً لمشاكل العالم الاقتصادية المزمنة. ونخشى ألا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي سيجد فيه العالم نفسه عاجزاً عن إضافة برميل واحد من النفط التقليدي لسد العجز في كميات الإنتاج. ولنتخذ العبرة من الدول الكثيرة التي كانت إلى عهد قريب تُصدِّر النفط والآن أصبحت مستوردة. فلا بد، في المقابل، أن تتكاتف الجهود وأن يتحمل كل طرف، في معادلة المُصَدِّر والمستهلك، مسؤولياته لوضع استراتيجية واضحة المعالم تضمن إيجاد مصادر طاقة جديدة تكون رافداً للمواد النفطية المحدودة. وهناك من يبني آمالاً كبيرة على النفط غير التقليدي، وهو ما يُطلق عليه النفط الصخري أو الرمال النفطية، المتواجد بكميات كبيرة في عدة أماكن من دول العالم، أهمها أمريكا الشمالية وكندا وفنزويلا. ولكنه مصدر مُكلف وإنتاجه محدود ولا يتناسب مع الكميات المطلوبة عندما يبدأ العد التنازلي للنفط التقليدي.
وعلى الرغم من كل المحاولات المبذولة من أجل تهدئة الوضع العالمي، فإن أسعار مصادر الطاقة النفطية مُرشحة للارتفاع فوق المستوى الحالي، في أي وقت وبدون سابق إنذار، لأن كل الظروف مهيأة لذلك. ومن غير المحتمل أن تتعرض الأسعار للانخفاض إلا في حالة واحدة، كأن يُصاب الاقتصاد العالمي بكساد كبير مفاجئ ويتراجع الطلب على الطاقة، وذلك قبل أن تتخذ الدول المُنتِجة إجراءات احترازية للحد من الكميات المعروضة. ونأمل أن تكون هذه حالة بعيدة الوقوع، ولا نود أن نتخيل مدى عِظم نتائجها التي تتمثل في نزول الطلب على النفط، وما يترتب على ذلك من حدوث اضطرابات اجتماعية وبطالة عارمة تعم معظم دول العالم، مع تدهور اقتصادي مخيف. وليس سراً أن نعزو جزءا من أسباب ارتفاع أسعار الطاقة إلى السياسة الأمريكية غير المسؤولة باختيارها هذا الوقت بالذات لتصعيد قضية المفاعلات الإيرانية، المتزامن مع نقص كبير في الإنتاج الليبي.