رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الكاتبات بين التحليق والالتصاق

.. بالأمس في مقتطفات الجمعة تحدثت عن كاتبة هندية شغلت الأوساط الفكرية والنقدية البريطانية بعد أن أخرجت أول كتاب لها، عبارة عن رواية واقعية حصلت منذ أكثر من قرن من الزمان في منطقة بالهند تسمى تلال النمر، وكان هو عنوان كتابها: ''تلال النمر'' Tiger Hills.. وقرأتُ القصة الواقعية، وكانت رواية طويلة تقارب أربعمائة صفحة، ولكن الصفحات كانت تنقلب بإصبع ساحر أمامي من فرط قدرتها المذهلة على تسييل اللغة وتبهير المشهد وروعة التصوير، وتلاحق الحدث وفخامة الوصف.
إنه عصر الكاتبات من النساء فالكاتبة التشيلية إيزابيل اللندي المفرطة الإنتاج كتبت واحدة من أجمل باقات القصص في عقدنا هذا، وكتابها الموسوم بـ ''باولا'' تحفة فنية عاطفية. وإيزابيلا تروي حكاية حياتها مع ابنتها ''باولا'' التي ترقد أمامها في غيبوبة حتى توفيت.. لم أجد في كل ما قرأت قصة تحزنك وتذهلك وتمتعك وتثري معلوماتك عن طرائق السياسة والاجتماع في دول لاتينية مثل التشيلي وفنزويلا، كما في كتاب باولا. وهي تكتب في كل المجالات حتى التاريخية والغموض والكلاسيك والرومانس وأيام الفتوح الإسبانية.
ومؤلفة مسلسلات قصص الفتى الساحر ''هاري بوتر'' قد تكون أعظم من باع كتباً للأطفال في كل تاريخ الكتابة. ونساء كثيرات في أمريكا وأستراليا وفرنسا يتبوأن أكبر مقامات الكتاب. وأخيراً وزعت منح جائزة ''ويتبيرد'' البريطانية المحترمة وهي مكونة من خمس منح، تتوزع على أطياف الإبداع الأدبي، ونالت النساء ثلاث جوائز منها. وأدهشت الجميع كاتبة ممتازة اسمها ''أندريا ليفي'' فازت بفئة الرواية عن قصة عنوانها ''جزيرة صغيرة'' تحكي عن المهاجرين الجامايكيين الذين ضمتهم الجيوش البريطانية ثم تنكرت لهم بريطانيا بعد أن انتهت الحرب، وقال القضاة عن كتابها: ''إنه مؤثر، وعاطفي، وإنساني، ويخرج العيون من محاجرها!'' والقصة فعلاً كذلك.
والنساء يبدعن عندما يتخلصن من غضبهن، واحتجاجهن، وثوراتهن النسائية المحصورة، ويقول الشاعر الإنجليزي الملهم ''توماس إليوت'': ''كلما فصل الكاتب في داخله بين الإنسان الذي يعاني وبين العقل المبدع، كان أكثر اكتمالاً في عمله الفني الفكري''. العقل يجب أن يتحرّر من أسر الشعور الفردي، أو النوعي، وهذا أجدى في خدمة قضاياه الفردية والنوعية!
''فرجينا وولف'' من أروع مَن كتب بأي لغة، ولغتها الإنجليزية كتبت بضمير نسائي عالمي، وكانت في وضع ضيق حيث كانت المرأة في العصر الفيكتوري مكرّسة الوقت لخدمة الرجل والعائلة حتى إنها اضطرت مثل كاتبات أخريات في القارة الأوروبية بتذييل أعمالهن بأسماء رجالية كي تقبل في الصحف والمجلات ودور النشر.
وما لمعت كاتبات مثل ''أميل برونتي'' وأختها ''شارلوت''، وفرجينا وولف ذاتها، ليس لأنهن لم يكن لديهن أولاد كما رُوج كثيراً، ولكن لأنهن حاولن أن يخرجن من التفكير الضيق الظرفي إلى التفكير الإنساني العام.
ولدينا كاتبات قد يبدعن ويحلقن في ذرى أعلى من كتاب رجال لو خرجن من شرانق معاناتهن وغضبهن واحتجاجهن وكأن العالم فقط ذكورٌ يتآمرون ضدهن - حتى ولو كان هذا صحيحاً، فيجب أن تكون المناورة أوسع كي تأكل الضيق بطريقها - وفي هذه الجريدة وصحف سعودية وخليجية وعربية كاتبات مبدعات خرجن من أنفسهن، وتناولن المواضيع المفتوحة، ولدينا كاتبات أسرن أنفسهن بالقيد الاحتجاجي الضيق فأسرَهُن القيدُ في غبار الأرض.
''فرجينا وولف'' بكتابها (غرفة لنفسها) - ودعني أقول لك أن غرفة لنفسها لم يكن كتابا أنثويا صرفا، ولكنها ترمز إلى أن المرأة يجب أن تبتعد عن ظروف الضاغطة عليها في مجتمع ضاغط لتخرج من نقعة ماء وتسبح في محيط واسع مفتوح - ذكرت معلومة عجيبة أثارت فضول الناس وقتها حين أشارت إلى أنه كان لشكسبير أختٌ أسبق منه موهبة وأنبه إبداعا..
وفي رأيي الخاص أن ''مي زيادة'' التي كتبت بأربع لغات بإجادة مذهلة كان سر تفوقها فوق ثقافتها العميقة المتعددة وعبقريتها العقلية الفريدة ومهارتها الفائقة في تزيين الكلمات في الجمل، هو أنها كانت تتعرض للشأن العام في كل مجال، حتى حينما تتكلم عن المرأة تبعد عاطفتها الأنثوية الخاصة وترفعها بأملها الإنساني العام.
لا يمكن لي ولا لغيري أن يكون وصيا على أمرأة أو حتى رجل كيف يكتب، ولا أهدف وصاية - فمن أنا؟ - ولا توجيها - فمن أنا؟ للمرة الثانية - ولكن هي رغبة مخلوطة مع ملاحظة في الإبداع النسائي لما يكون محلقا حرا ومفتوحا.
من لا يحب أن يقرأ الإبداع؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي