منطقة اليورو بين الحاجة إلى النمو وضرورة التقشف (1 من 2)
تمر منطقة اليورو (17 دولة) بظروف اقتصادية غاية في الصعوبة حاليا، حيث تتعدد مكامن الخطر في المنطقة والتي يمكن أن تنطلق منها في أي لحظة، لا قدر الله، أزمة العالم القادمة، فبعد أن توقف النمو تقريبا في المنطقة خلال الربعين الثاني والثالث من عام 2011، حيث اقتصر معدل نمو الناتج على 0.1 في المائة، فإن أحدث التقارير تشير إلى أن الربع الرابع من العام الماضي شهد معدل نمو سالب في الناتج المحلي الإجمالي لدول منطقة اليورو بمعدل 0.3 في المائة. أما على الأساس السنوي فقد اقتصر معدل النمو في منطقة اليورو على 1.4 في المائة فقط في عام 2011، وذلك مقارنة بمعدل نمو 1.9 في المائة في عام 2010، الجدول رقم (1) يوضح أن أكبر تراجع في معدلات نمو الناتج تحقق في الدول المعروفة بمجموعة الـ PIIGS، فقد حققت اليونان أكبر معدل نمو سالب في الربع الرابع من 2011 الذي بلغ 7 في المائة، وهي نسبة مرتفعة للغاية، كذلك حققت البرتغال معدل نمو سالب بنسبة 2.7 في المائة، وفي إيرلندا بلغ معدل النمو السالب 1.9 في المائة (في الربع الثالث من 2011) كذلك حققت إيطاليا معدل نمو سالب بنسبة 0.5 في المائة، الدولة الوحيدة في مجموعة الـ PIIGS التي حققت نموا موجبا هي إسبانيا والتي اقتصر معدل النمو فيها على 0.3 في المائة. هذه الدول بالطبع هي الدول التي تواجه مشكلة ديون سيادية وتحاول السيطرة على نمو الديون فيها من خلال اتباع سياسات تقشفية.
في ظل هذا التراجع في معدلات النمو كان لا بد لمعدلات البطالة في منطقة اليورو أن ترتفع، فوفقا لأحدث التقارير المتاحة من مكتب الإحصاءات الأوروبي اليوروستات، فإن متوسط معدل البطالة بلغ 10.9 في المائة في آذار (مارس) الماضي، وهو أعلى معدل للبطالة في المنطقة من الناحية التاريخية منذ إنشائها وحتى اليوم. وفقا لتقارير اليوروستات فإن معدل البطالة في المنطقة آخذ في التصاعد على نحو مستمر منذ 11 شهرا على التوالي، ففي آذار (مارس) 2011 كانت معدلات البطالة في المنطقة 9.9 في المائة فقط، ومع استمرار معدلات البطالة في الارتفاع بلغت أعداد العاطلين عن العمل في المنطقة في آذار (مارس) 2012 نحو 17.4 مليون عاطل.
من الجدول رقم (1) يلاحظ أيضا أن معدلات البطالة هي الأعلى بين الدول التي تواجه ارتفاعا في نسب ديونها السيادية إلى ناتجها المحلي الإجمالي، بصفة خاصة إسبانيا، حيث يبلغ معدل البطالة 24.1 في المائة واليونان 21.7 في المائة (وفقا لآخر بيان متاح في يناير 2012) وإيرلندا 14.5 في المائة والبرتغال 10.1 في المائة وأخيرا إيطاليا 9.8 في المائة. من ناحية أخرى، فإنه وفقا للبيانات التفصيلية، فإن معدلات البطالة تبلغ مستويات مرتفعة للغاية بين العمال صغار السن، ففي اليونان بلغ معدل البطالة بين الشباب 51.2 في المائة، وفي إسبانيا 51.1 في المائة، وفي إيطاليا والبرتغال 36 في المائة، و30.3 في المائة في إيرلندا.
اتجاهات النمو في منطقة اليورو واستمرار ارتفاع معدلات البطالة على هذا النحو توضح مدى ضخامة المشكلة التي تواجه صانعي السياسة في المنطقة. بالطبع فإن التخفيف من معدلات البطالة يقتضي ضرورة زيادة معدلات الاستثمار لفتح المزيد من الوظائف الجديدة، بصفة خاصة للشباب من الداخلين الجدد لسوق العمل، حيث تصل معدلات البطالة إلى مستويات حرجة. غير أن أحدث التقارير المتاحة تشير أيضا إلى تراجع معدل الاستثمار إلى الناتج في دول المنطقة في الربع الرابع من عام 2011 إلى 20.7 في المائة مقارنة بنسبة 21 في المائة في الربع الثالث، كذلك تراجعت حصة أرباح قطاع الأعمال إلى إجمالي القيمة المضافة من 38.4 في المائة في الربع الثالث إلى 38.1 في المائة في الربع الرابع من العام الماضي على التوالي. أكثر من ذلك فإن بيانات الناتج في قطاع الإنشاءات في المنطقة في شباط (فبراير) 2012 تشير إلى تراجع الناتج في هذا القطاع بنسبة 7.1 في المائة مقارنة بمستويات الناتج في كانون الثاني (يناير) من العام ذاته. ليس من المستغرب إذن في ظل هذه المؤشرات المختلفة للنمو والاستثمار أن تبلغ معدلات البطالة هذه المستويات التاريخية.
الحل الوحيد للبطالة هو النمو، فليس أمام أوروبا من خيار سوى أن ترتفع معدلات النمو في المنطقة على النحو الذي يمكن من فتح المزيد من الوظائف. غير أن النمو يقتضى اتباع سياسات اقتصادية توسعية سواء أكانت مالية أم نقدية، بينما تؤدي ضغوط الميزانية الحالية في المنطقة وارتفاع مستويات الدين العام إلى الناتج إلى دفع الحكومات إلى تبني سياسات تقشفية في الإنفاق لمحاولة ضبط المالية العامة والسيطرة على نسبة عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي للسيطرة على نسبة النمو في الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
التقشف إذن سياسة معاكسة للنمو في المنطقة، ويتسبب في تعقد أوضاع أوروبا الاقتصادية، فاستمرار السياسات التقشفية لا بد أن يكون مصحوبا بارتفاع معدلات البطالة، ومثل هذا الوضع يضع أوروبا في مأزق كبير، فأوروبا تحتاج إلى أن تنمو في الوقت الذي يمثل فيه التقشف مكونا أساسيا من وصفة التعامل مع مشكلة الديون وتدهور أوضاع المالية العامة، ومن ثم فإن أوروبا تواجه معضلة أساسية حاليا وهي كيفية الجمع بين النمو والتقشف في الوقت ذاته. وهذا هو ما سنتناوله في الجزء الثاني من هذا المقال - بإذن الله تعالى.