علاقة السويد مع الصين .. نموذج صارخ للنفاق السياسي
حل رئيس وزراء الصين وين جياباو هذا الأسبوع ضيفا عزيزا ومعززا على السويد وحكومتها. وأنت إن أردت أن تعرف كيف يتصرف الصينيون، أصحاب المال والبضاعة والصناعة والأدمغة والأسواق والحكمة، عليك أولا أن تراقب تحركاتهم في زياراتهم الخارجية.
وكي أقدم لقرائي الأعزاء نزرا يسيرا مما يدور في عقول المسؤولين الصينيين وهم على أعتاب قيادة أقوى دولة اقتصادية في العالم، تابعت زيارة وين جياباو أولا بأول وحاولت مشاهدة تحركاته من خلال الشاشة الصغيرة وقراءة كل تصريحاته، وهي ليست كثيرة لأنه مقل، وكل حكيم يؤمن أن خير الكلام ما قل ودل.
وين جياباو قدم إلى السويد ليس زائرا بل صاحب البيت. فبدلا من أن تحط طائرة الجامبو التي أقلته والوفد المرافق له - أكثر من 70 مسؤولا صينيا كبيرا - في العاصمة ستوكهولم هبط في مطار مدينة كوثنبرك - قلب الصناعة السويدية النابض وموقع أكثر الشركات السويدية تطورا.
وأول مكان زاره كان شركة فولفو العملاقة، حيث فُرشت له السجادة الحمراء وأستُقبل وكأنه يتفقد شركة صينية في شنغهاي. واصطف مسؤولو الشركة لاستقباله بانحناءة لا يمكن أن يقدموها لرئيس وزرائهم فردريك راينفيلد وحتى لملكهم كارل جوستاف. وحضر تجربة اصطدام سيارتين من صنع الشركة للبرهنة على متانة التكنولوجيا المستخدمة وتطايرت شظايا الاصطدام وسقط بعضها أمام قدمي رئيس الوزراء الصيني.
وتجول وين جياباو في أقسام الشركة مرفوع الرأس موجها وناصحا، والمديرون العامون يمشون خلفه وكأنه رئيسهم. وهو كذلك لأن بلد وين جياباو يملك هذه الشركة العملاقة. لقد اشتراها بفلوسه قبل سنتين وفرض عليها وعلى حكومتها شروطه التي تنصب أولا وأخيرا في خدمة مواطنيه، وذلك بنقل التكنولوجيا المتطورة إلى الصين - ليس المكائن فقط بل غرس العلم الذي أنتج هذه المكائن في عقول الأيدي العاملة الصينية.
وبينما كان وين جياباو ينظر بفخر وكبرياء إلى تحف التكنولوجيا النادرة التي يملكها من خلال "فولفو"، كان أعضاء الوفد الآخرون يجوبون الشركات السويدية الأخرى؛ منها شركة ساب لوضع اللمسات الأخيرة لضمها إلى ممتلكاتهم عبر البحار. اليوم لدى "فولفو" ثلاثة مصانع كبيرة في الصين وهي في طريقها لبناء المزيد. والسويد هو البلد الغربي الوحيد الذي سمح للصين بتملك شركة فائقة التطور مثل "فولفو" وبشروط سخية - ليس ماديا - بل من حيث الموافقة على نقل التكنولوجيا إلى الصين.
لن أغوص في الاستثمارات الصينية في هذا البلد ولن أقارنها بالاستثمارات العربية. لنبحث هذا الشأن في الرسائل القادمة ولنركز الآن على عنوان المقال.
لم تخل الصحافة السويدية من تعليقات حول انتهاكات حقوق الإنسان في الصين - بالطبع مسألة حقوق الإنسان مسألة نسبية رغم أهميتها حالما تتدخل السياسة والمصالح فيها. وحتى رئيس وزراء السويد بدأ مؤتمره الصحافي مع وين جياباو بالتطرق إليها.
رغم كل هذا غادر الزعيم الصيني وهو مطمئن البال، منشرح الصدر ومرتاح الضمير من أن السويد صارت المفتاح الذي من خلاله ستدخل الصين إلى آخر معاقل التكنولوجيا المتطورة في الغرب. غادر وهو قد وقّع 11 اتفاقية مع الحكومة والشركات الكبيرة، ومنها استثمارات بمليارات الدولارات في حقول التكنولوجيا المتطورة، ولا سيما في الصناعات البيئية التي تبز السويد فيها الدنيا.
مسألة حقوق الإنسان داست عليها الحكومة السويدية بأقدامها عندما فتح وين جياباو دفتر شيكاته. لم يحدث في تاريخ السويد أن حكمته إدارة تستخدم النفاق في السياسة الخارجية بهذا الشكل المثير والظاهر للعيان. السويد تلعب دورا كبيرا في أوروبا الغربية وينظر إليها كنموذج يحتذى به، ولكن هذا النموذج في عهد الحكومة الحالية زاغ عن مسار حقوق الإنسان لنفاق سياسته الخارجية.
ولهذا ترى المسؤولين السويديين ينتقدون بشدة بلدانا معينة - مثل احتلال وغزو روسيا لجورجيا ودول شرق أوسطية محددة - ولكنهم يغضون النظر عن غزو أمريكا للعراق والمآسي التي حدثت من ورائه، لا بل يرسلون قوات سويدية للمشاركة في غزو أفغانستان، والأنكى من هذا يقفون موقف المتفرج على الاحتلال الإسرائيلي البشع والهمجي للأراضي الفلسطينية، إلى درجة أنهم صوتوا ضد قرار عضوية فلسطين في منظمة اليونسكو. أليس هذا قمة النفاق السياسي؟