مدني الشريف: الأحوشة جانست «المداينة» وجعلتهم أسرة واحدة

مدني الشريف: الأحوشة جانست «المداينة» وجعلتهم أسرة واحدة

أرجع الباحث في التراث المديني الدكتور مدني شاكر الشريف سبب تآلف أفراد المجتمع المديني، وتلاحم أفراده وتكاتفهم إلى طبيعة التركيبة العمرانية لهذا المجتمع، حيث أسهم نظام الأحوشة في الزمن السابق، إضافة إلى أصالة هذا المجتمع وارتباطه بقيم الإسلام السمحة في وجود هذه الحالة، حيث كانت بيوت المداينة داخل تلك الأحوشة متلاصقة مع بعضها بعضا، وعادة ما تجد للحوش ــــ والحديث للشريف ـــ بابا واحدا فتظهر تلك البيوت، وكأنها بيت واحد وأسرة واحدة.
وكانت ورقة الشريف المعنونة بـ ''صور من المجتمع المديني خلال نصف قرن''، التي ألقاها ليلة الأربعاء الماضي في نادي المدينة الأدبي، وشاركه فيها المنشد المديني حسن شيرة، الذي قدم فواصل إنشادية قد أثارت شجنا حول ما طرحه المحاضر عن وجود ما يسمى قديما بـ''الدراويش''.
وعلق المحامي سعود الحجيلي على أن القول بوجود دراويش في المدينة يعد من ''الخرافات'' غير المتصورة عقلاً ـــ بحسب تعبيره ـــ فيما اتفق الباحث في معالم المدينة المنورة المؤرخ أحمد أمين مُرشد مع ما ذهب إليه المحاضر، مشيرا إلى أنه ذكر أسماء بعض الدراويش قديما في أحد مؤلفاته، وقام كذلك بتوثيق مسجل مع عدد من كبار السن، الذين عايشوا ''الدراويش'' في أحياء المدينة قديماً، كما تحدث عن دور المجتمع في احتضانهم، وأورد بعض القصص التي وردت في سيرهم.
وقد شهدت المحاضرة، التي قدم لها أشرف صالح الميمان فواصل إنشادية قدمها المنشد المديني حسن عبد الله شيرة، الذي يعد من الرواد في فن ''المجس''، الذي بدا صوته منهكا في المحاضرة، لكنه لا زال يحتفظ بخبرته العريقة، وهو الذي شارك بما يقارب ألف حفلة زواج، وتمكن من تقديم عدد من الأهازيج الحجازية القديمة، وما كان يتبادله الناس قديماً في التراث الفلكلوري الحجازي من أناشيد المديح فيما يسمى ''الخطيب والمجيب''.
وعاد الدكتور مدني شاكر ليستعرض حزمة من الدلالات على حالة التجانس والأسرية، التي ميزت المداينة عن غيرهم، منها أن أطفال الحي يشعرون أن الآباء آباؤهم والأمهات أمهاتهم حتى أنك عادة ما تجد بعض الأمهات يتولين أمر رضاعة أبناء الجيران، فتتولد الأخوة بالرضاعة مضيفا أن تلك الحالة كانت منتشرة في المجتمع المديني في ذلك الوقت بكثرة.
وفي حديثه عن انفتاح مجتمع المدينة على جملة من الثقافات الأخرى التي تتمثل في القادمين إلى المدينة والزائرين إلى مسجدها من أجناس وألوان تختلف في عاداتها وتقاليدها لم ينكر الدكتور مدني تأثيرها على المداينة، وقد ظلوا متمسكين بالتعاليم والقيم الأصيلة، مؤكدين أهليتهم لخير وأكرم جوار وهو جوار المصطفى- صلى الله عليه وسلم.
ومن أبرز سمات المجتمع المديني ـــ كما ذهب المحاضر ــــ حبه للمرح والفرح، وكل ما يدخل البهجة والسرور على النفس، التي يعرفها كل من يتعمق بعادات وتقاليد أهل المدينة، ومن يعرف ألعابهم الشعبية واحتفالهم بمناسباتهم المتعددة، مشيرا إلى مناسبة الزواج، الذي كانت أولى خطواته ما يسمى بـ''الراية'' حين تقوم عائلة (العريس) بوضع راية على منزلهم يجتمع لها عدد كبير من الجيران والأقارب وسط غمرة من الفرح، فيما تقوم أم الزوجة في المقابل بخلق أجواء فرح لا تقل عنها بالمقابل بحفلة مصغرة تسمى ''الغمرة''، التي يجتمع فيها أقارب (العروس) من الدرجة الأولى داخل منزلها، ويمتد الفرح إلى خارجه، حيث الأصدقاء والجيران ممثلون أجمل صور التلاحم الاجتماعي.
وانتقل المحاضر بعدها ليصف طريقة تقديم المهر للزوجة، حيث يسير جمع كبير من أقارب وجيران الشاب المتزوج بصندوق بداخله المهر لمنزل العروسة، وفي مقابل ذلك يجتمع في منزل أهل (العروسة) جمع لاستقبالهم في مكان معين يتبادلون المديح والمباركة للمتزوجين في أهازيج فرح وأناشيد تسمى ''الخطيب'' و''المجيب''.
ويرى الشريف أن موضوع الحياة الاجتماعية في المدينة المنورة تناولته كثير من الكتب بحثا وتاريخا ومعالم وآثار، بدءا من تاريخها وهجرة النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ إليها وبناء مسجده الشريف، وامتدادا إلى الحديث عن مساجدها وعلمائها ومعالمها وجبالها ومساكنها وأحواشها وعادات أهلها وتقاليدها وموروثها الاجتماعي، الأمر الذي دفعه إلى الاقتصار على ذكر مشاهد اختزلتها ذاكرته خلال مرحلة الطفولة والشباب، حرصا على عدم الوقوع في التكرار.
وكان الدكتور مدني شاكر قد شرع محاضرته بعرض صور ومشاهد عبر جهاز العرض المرئي التقطتها كاميرا المخرج محمد الحازمي تظهر فيها بيوت المدينة القديمة المحيطة بالمسجد النبوي مع بداية التوسعة الجديدة للمسجد في عهد الملك فهد بن عبد العزيز ـــ يرحمه الله.

الأكثر قراءة