استراتيجية وزارة الصحة وتحقيق العدالة

تلقيت العديد من الردود والتعليقات على مقالي الخاص باستراتيجية وزارة الصحة، الذي كان عنوانه ''استراتيجية وزارة الصحة هل هي استراتيجية وزارة أم مستشفيات؟''. فللأسف أن مقالي فهم في غير سياقه. فلقد كان من المفترض ربط المقال مع المقالات الثلاثة الأخرى، التي تحدثت فيها عن مستشفيات 50 سريرا وخصخصت الخدمات الصحية. فكما باركت لوزارة الصحة مواقفها الإيجابية، خصوصا من خصخصة الخدمات الصحية ومستشفيات الـ 50 سريرا لدي تحفظ كبير على استراتيجيتها الصحية إجمالا. هذا التحفظ ذكرت جزءا منه في مقال الاستراتيجية السابق الذكر.
فلا يفترض أن تصنف المقالات السابق ذكرها في إطار عام ''مع أو ضد'' بل لا بد من النظر لها على أنها أطروحات علمية بعيدة عن الشخصنة.
فما أعرفه شخصيا عن الدكتور عبد الله الربيعة أنه من الشخصيات الوطنية، التي ليس فقط تتقبل النقد البناء الهادف، بل تشجع كل نقد بناء يسهم في رفعة وسمو خدماتنا الصحية.
عند مراجعتي لاستراتيجية وزارة الصحة المنشورة في موقع الوزارة وجدتها خطة لإدارات المستشفيات، وليست خطة لنظام صحي عام. فقد كنت أتمنى أن تكون استراتيجية وزارة الصحة قد نظرت لنظامنا الصحي نظرة تكاملية، وليس فقط العلاقة بين مستشفياتها وكيفية تطويرها.
كان من الأولى أن يبدأ إصلاح نظامنا الصحي بترتيب أولوياته وتحديد محفزاته، وأن تعد الميزانيات على هذا الأساس لا الطريقة العكسية، التي نراها الآن. كما أن على وزارة المالية العمل مع وزارة الصحة من أجل السعي نحو تحقيق استثمار أفضل للموارد الصحية ومراجعة آلية اعتماد رواتب العاملين في القطاع الصحي.
كما أن تقييم دوافع نجاح الأنظمة الصحية يجب أن يكون ليس فقط بمعرفة النظام الصحي من منظوره العام (تأمين صحي اجتماعي، تأمين صحي تجاري، نظام صحي وطني)، بل لا بد من الخوض في تفاصيل تلك الأنظمة، لأن الأنظمة الصحية الحديثة تداخلت، وأصبحت مكونة من خليط من مجموعة أنظمة لكل منها أولوياتها وأهدافها ومنطلقاتها. فمثلا يكثر الحديث عن تشابه النظام الصحي السعودي مع النظام الصحي الإنجليزي لكن النظام الصحي الإنجليزي له فلسفته الصحية، التي ساعدت على رفع مستوى الخدمة، وترتيب أولويات الخدمات، التي تديرها وزارة الصحة من الخدمات التي يمكن تخصيصها. فمثلا نجد أن مراكز الرعاية الأولية أو ما تسمى طب الأسرة والمجتمع في بريطانيا لها استقلالية مالية وإدارية عن وزارة الصحة وتشغل بناء على أنها لا تتبع وزارة الصحة إداريا (NHS). لذا فإن نظام الرعاية الأولية لديهم يدار، وفق هذا الأساس الواضح المبني على الفصل بين مقدمة ومشتري الخدمة العلاجية. لذا فمن غير المنطقي فهم الدور الحيوي لطب الأسرة والمجتمع في بريطانيا بمعزل عن فهم أساس النظام الصحي الإنجليزي أو التدقيق في طبيعة العلاقة بين الأطراف المختلفة. فمثلا رواتب العاملين في مراكز الرعاية الأولية تتم وفق معايير علمية وضعتها وزارة الصحة البريطانية، لكن وزارة الصحة ليست المسؤولة عن توظيف العاملين في تلك المراكز، فضلا عن أن تكون مسؤولة عن دفع رواتبهم. فوزارة الصحة تشتري الخدمة من القائمين على مراكز الرعاية الأولية وتدفع لهم مبالغ مالية، وفق عدد السكان المسجلين في تلك المراكز''Catch Population'' ومدى إسهام تلك المراكز في تحسين العادات الصحية لسكان المنطقة، التي يراجعون عندها وغيرها. لذا فإن آلية دفع الرواتب والإشراف على تلك المراكز تختلف كليا عن الآلية المتبعة لدينا.
كما أن رواتب العاملين في مستشفيات trust، فإن آلية صرفها تختلف عن الآلية المنفذة لدينا، ما أدى إلى أن تكون محفزات العمل لدى الأطباء والعاملين في المجال الصحي بشكل عام لديهم تختلف عن دافع إنجاز العمل لدينا.
فالنظام الصحي الإنجليزي NHS لديه آلية واضحة في كيفية حساب الميزانيات الصحية، ما يجعل تقديم الخدمة وتطويرها، وفق هذه المعادلة. وقس على ذلك الأنظمة الصحية الأخرى كالألمانية والكندية والفرنسية واليابانية وغيرها.
للأسف أن نظام الرواتب لدينا مبني على قاعدة لا تقول للمحسن أحسنت ولا تعاقب المسيء. فالراتب كما يعبر عنه بالعرف المحلي ''نازل نازل'' بغض النظر عن عدد الحالات، التي شاهدها الطبيب أو عدد المرضى، الذين تم فحص حالتهم الصحية أو مدى إسهام الطبيب في تحسن الحالة الصحية للمرضى، الذين أشرف على علاجهم.
ومما زاد الطين بلة، كما يقال قرار توحيد رواتب العاملين في القطاعات الصحية الحكومية دون التأكد من المساواة في المهام وساعات العمل. هذا القرار زاد من الإحساس بعدم العدالة، خصوصا لدى العاملين في القطاعات الحكومية الأخرى. كما أن طريقة دفع الرواتب ما زالت بدائية وغير عملية. فليس سرا أن الأطباء العاملين في القطاعات الحكومية ما زالوا يعملون أثناء ساعات الدوام الرسمي في مستشفيات القطاع الخاص على الرغم من توعد وزارة الصحة للمخالفين، وعلى الرغم من صدور فتوى شرعية تحرم هذا العمل.
ولعل قضية العمل في القطاع الخاص جزء من قضايا عدة تدور في مجملها حول مدى تحقيق عدالة صرف رواتب الأطباء والمهنيين. والعدالة التي أقصدها ليست في زيادة رواتب الأطباء العاملين في القطاع الحكومي، لتكون أعلى من رواتب أطباء العاملين في القطاع الخاص، وإنما في كيفية احتساب الراتب الطبيب. فطرق دفع رواتب الأطباء والعاملين في القطاع الصحي متعددة، وكل طريقها لها إيجابيتها وسلبياتها، لكن يظل السؤال قائما عن كيفية اختيار الطريقة الصحيحة، التي تتلاءم مع ساعات عمل الطبيب، وتساعد على خلق بيئة تنافسية بين الأطباء تصب في نهاية الأمر في مصلحة المريض.
فطريقة اعتماد صرف رواتب الأطباء غير مرنة، ولا تساعد على خلق دافع حقيقي للطبيب المنتج من أجل زيادة الإنتاجية. لذا فإنني كنت أتوقع أن تحدد استراتيجية وزارة الصحة كيفية تحقيق معادلة العدالة في الأجر مع تحقيق العدالة في الجهد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي