أزمتنا الحقيقية أزمة قيادات
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي كيف أن أغلبية منظماتنا الحكومية وغير الحكومية الكبيرة منها والصغيرة تقع دائما في ذيل قائمة منظمات دول العالم عندما تقوم بعض الجهات الخارجية والمحايدة بتقييم الأداء. وذكرت بعض الأمثلة وعرضت بعض التصنيفات التي تثبت بالفعل أن لدينا خللا في إدارة المنظمات وأن هناك تخبطا تشترك فيه أغلبية منظماتنا.
وفي هذا المقال أريد أن أتعرض للأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحد وجعلتنا نتنافس في المقاعد الخلفية في التصنيفات الإقليمية والدولية، ولو أن الأمر يحتاج إلى دراسة مستفيضة وأبحاث معمقة ولا يكفيها مقال عابر هكذا، لكنني أريد أن أبين وجهة نظري حول الموضوع. أرى أن أول وأهم سبب هو الاستهتار واللامبالاة بأهمية الإدارة العلمية ومعاييرها الدولية، ومنها وفي مقدمتها، عدم وضوح الرؤية وعدم تفعيل الرسالة. فمنظماتنا ومنشآتنا وجامعاتنا ليست لديها رؤية واضحة وليست لديها رسالة حقيقية، فإذا لم تكن هناك رسالة ورؤية للمنظمة فإنها لا تعلم إلى أين تتجه ولا تعرف بالضبط ماذا تريد، فنجدها تدور حول نفسها وتسير دون هدى.
وهذا لا يعني أن منظماتنا ليست لها رؤية فعلية ولا صياغة متقنة للرسالة، بل هي موجودة وموثقة، لكنها لا تعكس الواقع ولا تتفق والمعتقد الفعلي للمنظمة. فنجد رسالة المنظمات في مجملها عبارة عن جمل جامدة وعبارات عقيمة لا تعكس سلوكها التنظيمي ولا تتفق وقيمها وأعرافها وعوامل ثقافتها التنظيمية. كما أن رسالة منظماتنا التي تتصدر عادة مواقعها الإلكترونية ومنشوراتها الورقية ومداخل إداراتها الرئيسة، عبارة عن مجموعة من العبارات صيغت بطريقة مضحكة وصممت بطريقة عفوية تتمثل فيها المثالية وعدم الواقعية، لا تعبر أبدا عما يحدث في بيئتها التنظيمية. إن مثل هذه العبارات العفوية تكشف لنا سطحية التفكير الإداري الذي تمر به منشآتنا وبعدها عن المنهجية العلمية في الإدارة. ولا أريد هنا أن أعطي درسا عن كيفية إعداد الرؤية وصياغة الرسالة، فلست أهلا لذلك، لكنني أريد أن أبين أهمية صياغة الرسالة بطريقة علمية لأنها تعتبر البوصلة التي تحدد اتجاه المنظمة.
وعدم وضوح الرؤية وعدم المقدرة على بناء رسالة حقيقية يقودنا إلى السبب الآخر لرداءة أداء منظماتنا ووقوعها دائما في ذيل قائمة منظمات العالم، ألا وهو الاستعجال في الوصول إلى العالمية من دون قاعدة معرفية وخبرة إدارية. الاستعجال والاندفاع السريع في تغيير الصورة والرغبة في تحقيق نتائج سريعة سبب جوهري في تفاقم الأمر، والمثال بين أيدينا واضح، وهو ما حدث لبعض جامعاتنا التي أرادت أن تختصر الزمن وتوظف المال فأتت بما لم يأتِ به الأولون. عندما صدر التصنيف الإسباني الذي بيّن مستوى أداء جامعاتنا المتواضع عام 2006 لم تستطع أن تبني خطة لتغيير الصورة وقياس الأداء ورفع المخرجات، بل أبقت الجامعات الأمر كما هو ولم تقم بأية خطوة للتغيير الفعلي، فكل ما فعلته النظر إلى المعيار وماذا يطلب بالضبط ومن ثم تنفيذ بنوده بكل دقة وبطريقة أستطيع أن أقول إنها لا أخلاقية، فقد وظفت الأموال من أجل تغيير الصورة بينما الواقع التنظيمي والتشغيلي ظل كما هو. يجب أن ندرك جميعا أنه لتحقيق امتياز الأعمال والوصول إلى معايير الجودة والتنافس مع المنظمات الدولية والحصول على تصنيف مرتفع يتعين أولا التريث ودراسة الأسباب واقتراح الحلول والبدء بالتنفيذ وعدم استعجال النتائج وعدم تسطيح الأمر، كما يجب العمل بدقة وأمانة ومصداقية، أما ما يحدث من ترقيع فضرره أكثر من نفعه.
أما السبب الجوهري الثالث وراء ظهور منظماتنا في ذيل قائمة منظمات دول العالم، تولي الأمر غير أهله وعدم تمكين القادة الأفذاذ وإعدادهم. وتكلمت عن هذا الموضوع في مقالات سابقة يمكن الرجوع إليها، إلا أنني أريد هنا أن أبين أن قيادة المنظمات تحتاج إلى نوعية من الرجال يمتلكون خصائص فريدة وصفات نادرة وتدريبا قد لا تتوافر للبقية. ونحن نعرف طريقة منظماتنا في تعيين قياديها كيف تبدأ وكيف تنتهي حتى تكون لدينا مجموعة من المنتفعين المتسلقين يظلون طوال حياتهم الوظيفية يدمرون كل ما يقع تحت أيديهم من الموارد البشرية والمادية والمالية لأنهم لا يتقنون إلا التدمير ولا يعرفون سوى العبث، والحق يقال إن الأزمة الحقيقية التي تمر بها منظماتنا هي بالفعل أزمة قيادات. القائد الحصيف هو الذي يبني المنظمة على رسالة واضحة وليس على وجوده كقائد ويبذل الشيء الكثير من أجل معرفة من سيكون خليفته. القائد الفذ هو الذي يضع الخطة ويوضح الرؤية ويبني الرسالة حتى تكون المنظمة قادرة على السير من دونه. لكن الذي يحدث أن قيادتنا التنظيمية تضع أهدافها وتبني خططها وتشغل آلياتها بناء على وجودها في قمة الهرم، ولسان الحال يقول: أنا ومن ورائي الطوفان.
هذه بعض الأسباب الجوهرية لتردي أوضاعنا الإدارية والتنظيمية، وهناك أسباب أخرى لا يتسع المكان لذكرها، لذا علينا أن ندرس واقعنا ونعرف حقيقة بيئتنا التنظيمية ونقترح الحلول لانتشال منظماتنا وبناء عالمنا إذا أردنا أن نكون شيئا مذكورا.