المملكة تطمئن العالم

أحياناً كثيرة يكون من الصعب استيعاب بعض جوانب وأبعاد السياسات والقرارات الاقتصادية ومنطقيتها، خصوصا عندما يتعلق الأمر باستشراف المستقبل ومحاولة البناء عليه في اتخاذ هذه القرارات. مثال ذلك قرار المملكة بزيادة قدراتها الإنتاجية من النفط إلى 12.5 مليون برميل يومياً، الذي ترتب عليه استثمارات تجاوزت 100 مليون دولار، مع استثمارات كبيرة جداً للمحافظة على استدامة هذه الطاقة الإنتاجية. القرار لم يبد للبعض منطقيا من الناحية الاقتصادية البحتة، لكن عندما تضعه في إطاره السياسي الصحيح، تجد أنه خدم المملكة بشكل كبير.
القوى الاقتصادية في العالم يعاد تشكيلها وتتم إعادة رسم خريطة اقتصادية جديدة، كما يتبع ذلك رسم خريطة سياسية جديدة للعالم. الصين فرضت نفسها كلاعب اقتصادي وسياسي كبير جداً، وبدأت تغير من شكل ونمط هذا الدور من لاعب هادئ، إلى لاعب أكثر خشونة، إدراكا منها أولا لقدراتها في الوقت الحاضر، ومحاولة لإفهام الآخرين أنها قادرة على لعب دور كبير يناسب حجمها وثقلها الاقتصادي والسياسي. الهند هي الأخرى تحاول لعب دور مشابه ومنافس على الخريطة الاقتصادية والسياسية في العالم، وتراجع دور باكستان السياسي في المنطقة خدمها كثيرا. اليوم في ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي في العالم، لا تزال كل من الهند والصين تحققان أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم. روسيا تحاول استعادة مجدها وتأثيرها السياسي في المنطقة، والأحداث الأخيرة في سورية دليل على محاولتها التمسك بآخر حلفائها في المنطقة العربية. الغرب على الجانب الآخر يعيد صياغة تحالفاته وعلاقاته آخذا في الاعتبار هذه التغييرات الكبيرة.
خلاصة القول، إن العصر الحالي يشهد إعادة تحديد مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي في العالم، والمملكة ليست بعيدة عن هذه الأحداث، بل إنها جزء أساسي من عملية إعادة التشكيل التي يشهدها العالم. المملكة لا تزال اللاعب الرئيس في أسواق النفط العالمية، شاءوا أم أبوا، وشئنا نحن أم أبينا، فهي أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم، وسياستها في هذا الإطار تؤثر بشكل كبير في الاقتصاد العالمي. المملكة أدركت حجم هذا الدور وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، ولعبت سياسة عقلانية، تخدم مصالحها ولا تؤثر في مصالح اللاعبين الرئيسيين في الاقتصاد والسياسة في العالم. سياسة المملكة النفطية جعلتها على مسافة متوازنة بين الغرب والشرق، وساهمت بشكل كبير في زيادة تأثيرها السياسي. إدراك نقاط القوة بالنسبة للمملكة كان مهما جداً في رسم سياستها النفطية، وهو ما دفعها للاستثمار في تعزيز ذلك بالتوسع في الطاقات الإنتاجية للنفط. العوائد بمعنى آخر لم تكن منظورة عندما اتخذ قرار الاستثمار، لكنني أكاد أزعم أنها لا تغيب عن ذهن أي مراقب للأحداث الآن سواء على الساحة السياسية أو الاقتصادية.
الارتفاعات الأخيرة لأسعار النفط تعكس بالدرجة الأولى الظروف الجيوسياسية في المنطقة، ولا تعكس بأي شكل أوضاع وأساسيات السوق الحالية. على العكس من ذلك، فجميع المؤشرات تدل كفاية المعروض الحالي من النفط في الأسواق العالمية، وهو ما أكده وزير البترول المهندس علي النعيمي في مقال نشر له الأسبوع الماضي على صحيفة ''الفاينانشيال تايمز''. في هذا المقال أيضاً، أكد الوزير النعيمي على دور المملكة في أسواق النفط، وعلى استمرارها في لعب هذا الدور في المستقبل، وبث من خلاله رسالة تطمئن العالم بأن المملكة قادرة على تحقيق ذلك. ولك أن تتخيل المكاسب السياسية التي تتحقق للمملكة جراء ذلك، كل ذلك لم يكن ممكنا لو أن المملكة لم تتخذ قرار الاستثمار في التوسع في طاقاتها الإنتاجية. هذا كما أشرت يجعلنا عنصراً رئيساً في معادلة التغيير التي تشهدها موازين القوى على الخريطة السياسية والاقتصادية في العالم، وعاملاً رئيساً في نجاح هذه المعادلة بالخروج بالنتائج المرجوة. المهم هو كيفية الاستفادة من ذلك في تعزيز مكانتنا بشكل أكثر، وزيادة تأثيرنا السياسي والاقتصادي في العالم .. فالفرص لا تتكرر كثيرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي