الإعلام الحكومي ومواكبة الواقع الفكري الجديد
منذ أن تحسنت أسعار النفط وحكومتنا تخصص موازنات قياسية للإنفاق حتى باتت بلادنا ورشة عمل في المناطق كافة دون استثناء حتى قال أحد الأصدقاء مازحا إن حكومتنا من كثرة الفلوس تبني جسورا في البراري، وهو يقصد الجسور التي حلت محل التقاطعات الخطرة في كثير من الطرق الصحراوية التي لا تشهد زحاما مروريا إلا أنها تشهد حوادث قاتلة بسبب ضعف الثقافة المرورية لدى مستخدمي الطريق، وهي للأمانة جسور سيكون لها أثر كبير في الحركة المرورية وحماية الأنفس والممتلكات في السنوات القادمة، حيث تتزايد الحركة المرورية.
الإنفاق القياسي المتنامي منذ عام 2005، الذي قارب تريليون ريال في موازنة عام 2012، ما زال مستمرا، خصوصا في مجال الإنفاق الرأسمالي على مشاريع البنى التحتية الجديدة من مدارس ومعاهد وجامعات ومستشفيات علاجية وأخرى تعليمية وطرق جديدة تمتد لمئات الكيلو مترات أو معالجة لطرق قديمة بالتوسعة أو بإضافة طريق مواز لتصبح مزدوجة وسكك حديد ومحطات تقطير للمياه والإنتاج المزدوج، ومن شبكات صرف صحي وتصريف الأمطار وغيرها، كما أنه ما زال مستمرا في مجال إنشاء المساكن والقروض الإسكانية والقروض التنموية للمواطنين الراغبين في تطوير مشاريع صغيرة أو متوسطة، فضلا عما تتلقاه الشركات الكبرى كشركات البتروكيماويات والشركات العقارية ذات المشاريع التنموية الحيوية من دعم كبير على شكل قروض ميسرة ومساندة في تطوير البنى التحتية.
أقول كل هذا الإنفاق أدى بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تحسين مستوى حياة المواطن ورفع جودتها، كما وفر له الكثير من الفرص الوظيفية والاستثمارية التي اغتنمها الكثير وحقق المنافع من ورائها وتقاعس عنها البعض ممن يريد الأموال السهلة دون بذل أي جهد كما هو الحال في الدول الخليجية الصغيرة المجاورة التي لا تتطلب موازنات ضخمة للإنفاق على تطوير بناها التحتية والتي لا يزيد حجم أغلبها على حجم مدينة الرياض من جهة المساحة ومن جهة التعداد السكاني وما يتطلبه ذلك من بنى تحتية ضخمة من ماء وكهرباء وإنارة وسفلتة وصرف صحي وتشجير ومدارس ومراكز رعاية أولية ومستشفيات وخدمات إدارية ومالية.
ورغم ذلك لا يشعر الكثير من المواطنين بحجم الإنفاق وعوائده الاقتصادية والاجتماعية رغم أن الكثير منهم تحسنت أوضاعهم المالية بشكل مباشر بعد أن زادت أسعار أراضيهم التي تملكوها بأسعار قليلة في مناطق نائية إلى أضعاف مضاعفة بعد أن أصبحت مجاورة للكثير من المشاريع الحكومية كالجامعات والمعاهد والمستشفيات وبعد أن تم ربطها بشبكة من الطرق الحديثة والواسعة، ورغم كل هذا الإنفاق السخي بما في ذلك دعم السلع والخدمات (أسعار الوقود في المملكة الأقل عالميا) وما ترتب عليه من فوائد اقتصادية واجتماعية عظيمة وجمة، ما زال الكثير من المواطنين لا يرى في ذلك إنجازا، ويقتصر الإنجاز لديهم على نسب الزيادات المباشرة في الرواتب فقط دون الالتفات لكل هذا الإنفاق ونتائجه الحالية والمستقبلية على جودة حياتهم وما تتيحه من فرص وظيفية واستثمارية تتطلب شيئا من الجهد والالتزام والإصرار، ولا أقول الإبداع كما هو الحال في الدول الغربية.
هذا الوضع يتطلب إعلاما حكوميا جديدا ذكيا متمرسا يستند إلى مكاتب خبرة استشارية محلية بفكر عالمي كي يقوم بمهمته المهمة والحيوية والشاقة أيضا في ظل الواقع الفكري الجديد، حيث شكلت الفضائيات وإعلام التواصل الاجتماعي الجديد لدى الغالبية العظمى من المواطنين، وهم الشباب، فكراً ووعياً جديدا يتطلب جهودا إعلامية إقناعية تتجاوز مرحلة التذاكي والامتنان والترفع إلى مرحلة الإفصاح والوضوح بالمنجز الحقيقي ونتائجه على أرض الواقع وأسس هذا المنجز الفكري بلغة سلسلة ومفهومة ومن ثم التواصل لمعرفة ردود الأفعال والتعامل معها بإيجابية تتجاوز الردود الانفعالية إلى مرحلة استثمار هذه الردود لتحسين الأداء ورفع الجودة وتخفيض نسب الفساد التي لم يسلم منه مجتمع أو دولة.
والسؤال: أين إدارات الإعلام والعلاقات العامة الحكومية القادرة على لعب هذا الدور في هذه المرحلة الحرجة؟ أحد المسؤولين في إحدى الإدارات الحكومية المهمة والحيوية وذات الاتصال المباشر بالمواطن قال لي في حديث غير قابل للنشر باسمه ''إن الجانب الإعلامي في كثير إن لم يكن في كل الجهات الحكومية، يرثى له والنتيجة ما نراه من صورة ذهنية ونمطية سلبية لا تعكس ما يبذل من جهود وما تحقق من إنجازات وآثار إيجابية لا تعد ولا تحصى، وفي ذلك إجحاف واضح لهذه الجهات الحكومية والعاملين بها بمستوياتهم كافة''، ويضيف هذا المسؤول مشكورا لأنه وضع الإصبع على الجرح ''إن الجهات الحكومية ظلت لسنوات طويلة محمية من الإعلام والانتقاد وعندما فتح باب الانتقاد والنشر على مصراعيه وعندما دخل الإعلام الجديد الذي يتطلب خبرات ممارسة لم تكن الإدارات الإعلامية جاهزة بالكوادر والخبرات للتعامل مع هذا الواقع الفكري الجديد''.
وأضيف أن المسؤولين ذاتهم لم يكونوا على مستوى التغير الإعلامي ولم يكونوا مرنين للتعامل مع هذا الواقع الجديد بفكر وتصرف جديدين، والدليل أن الموازنات المخصصة للإعلام ضعيفة جدا، وكم من وزارة تنفذ مشاريع بعشرات المليارات لم تخصص بضع ملايين للجانب الإعلامي لإبراز فكرها الذي يقف وراء هذه المشاريع وتطوراتها وما حققته من إنجازات وتطلعاتها وما تتوقعه من المواطنين للتفاعل الإيجابي مع هذه المشاريع، نعم وللأسف الشديد ما زال الأصل في التعامل مع المواطنين أن عليهم أن يروا المشاريع ويفهموا بأنفسهم ماهيتها وأهميتها وانعكاساتها على جودة حياتهم وكيفية الاستفادة منها لما يحقق صالحهم.
ختاما أتطلع إلى أن يعي المسؤولون في الأجهزة الحكومية كافة أهمية الإعلام ويخصصوا له الموازنات والكفاءات المناسبة وبيوت الخبرة الداعمة لإبراز فكر الأجهزة الحكومية ومشاريعها وإنجازاتها وتطلعاتها في إطار اتجاهات الحكومة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة والمتوازنة وتوعية المواطن بكيفية الاستفادة المثلى من هذه المشاريع التي تستهدف بالمحصلة رفع مستوى جودة حياته ورفع مساهمته في الجهود التنموية.