لا نحتاج إلى أنظمة الجودة بل إلى معايير للفساد

تتجه كثير من مؤسساتنا ومنظماتنا الحكومية وغير الحكومية لنيل معايير الجودة، فتعقد المؤتمرات والندوات والملتقيات لفهم مصطلح الجودة ومعرفة طريقة عملها وآلية تنفيذها. وتصرف الأموال الطائلة من أجل استقطاب الخبراء والمحاضرين، وتعقد الكثير من ورش العمل والدورات التدريبية للموظفين والقياديين على حد سواء لترسيخ ثقافة الجودة. كما تقوم كثير من منظماتنا بنقل تجارب الجودة وتطبيق بعض نماذجها التي ثبت صلاحيتها في بيئات إدارية مختلفة شرقية كانت أم غربية.
ورغم كل هذا البذل السخي والعطاء غير المحدود والاستثمار الضخم والكم الهائل من الأموال والوقت المستثمر في هذا المجال من أجل فهم وتطبيق مبادئ الجودة إلا أن هذا لم ينعكس على أداء المنظمات وجودة المخرجات، بل بقي الوضع على حاله، بل وصل الأمر إلى أن بعض منظماتنا كانت قبل الجودة أفضل بكثير منها أثناء وبعد تطبيق معايير الجودة حتى أصبحنا نلاحظ أنه كلما زاد الاستثمار في الجودة زادت رداءة المخرجات وانتشر الفساد بكل أنواعه وأشكاله، ولم تزدنا الجودة إلا تخلفا وفسادا ورجعية وبعدا عن المهنية في أداء العمل الإداري والتنظيمي.
وظهرت لي أسباب عدة وراء هذا الانحدار في العمل الإداري والتنظيمي لمنظماتنا نتيجة اتباعنا معايير الجودة، من أهمها أن منظماتنا لم تسع فعليا إلى الجودة الحقيقية، ولم تكن جادة في الحصول على المعايير الدولية، بل هدفها المبطن ترسيخ واقعها وتوثيقه وجعله المعيار المثالي للجودة، لأن هناك منتفعين من بقاء الوضع على حاله، وأن التطبيق الفعلي للجودة يعني التضحية بمصالحهم وفقدان مواقعهم والحرمان من الامتيازات التي اعتادوها وألفت أنفسهم بريقها.
البعض يرى أن الجودة تعني التخلي عن الكراسي والرقابة الصارمة على مجلس الإدارة وإعادة الحقوق إلى أصحابها وإتقان العمل والتحسين المستمر للأداء، وهذا يعني أن البعض سيخسر فكان لزاما أن يضعوا الجودة تحت المجهر ويعيدوا تشكيل مبادئها بالطريقة التي تحفظ لهم مكاسبهم وتحقق لهم مبتغاهم. وقد يكون سبب رداءة المخرجات وتدني الوضع الإداري لكثير من مؤسساتنا الجهل بثقافة الجودة، وأن منظماتنا لم تعد تمهد لفهم الجودة وأهمية تطبيقاتها. وقد يكون هناك سبب آخر وهو أن معايير الجودة التي ولينا وجوهنا شطرها لا تناسب طبيعة منظماتنا ولا تحقق طموحاتنا.
وأيا كان السبب، فإنني أرى التوقف عن مهازل الجودة التي قضت منظماتنا فيها عقودا من التخبط وضياع الأموال واللهث الشديد وراء المعايير الدولية والتصنيفات العالمية، وأرى حلها بمعايير للفساد لأن ملامح الفساد في منظماتنا أكثر بكثير من ملامح الجودة. فمن السهل ملاحظة آثار الفساد في غالبية منشآتنا، لكن لا يوجد أي أثر للجودة سوى إدارات تحمل الاسم وهي عنه بعيدة رغم البذل السخي، لذا يتعين علينا تطوير معايير لقياس الفساد والكف عن تتبع معايير الجودة حتى نقضي على مارد الفساد الذي تجذر في مؤسساتنا، ونهذب وضع مؤسسات الدولة ونعيدها إلى مسارها الصحيح.
أرى أن يتم تطوير معايير للفساد بناء على طبيعة الأداء في المنظمات المحلية والإقليمية ولا يمنع من تكييف بعض المعايير الدولية حتى تناسب بيئتنا التنظيمية. فمثل معايير الفساد هذه ستساعد منظماتنا على معرفة أين تقع بالفعل، وكيف تتخلص تدريجيا من الفساد، كما يساعدها على تحديد نسبة الفساد في كل منظمة، بل قد يحدد مستوى الفساد في كل إدارة داخل المنشآت نفسها. ويمكن تصنيف المنظمات بناء على نصيبها من الفساد بنسب مئوية أو درجات على مقياس ''ليكرت'' من ا إلى 5، حيث يمثل رقم 1 أعلى نسبة فساد بينما المنظمة التي تحصل على 5 فإنها شبه خالية من فساد. كما يمكن بعد ذلك تصنيف الفساد حسب النوع فيعطى نسبة للفساد الإداري، وآخر للمالي، وثالث للسلوك التنظيمي وهكذا. ويتم هذا التقييم دوريا كل سنتين تقريبا، ويجب مراقبة المنظمات وتحفيزها على تخفيض نسبة الفساد حتى يختفي كليا، وعندما يتقلص الفساد فهذا يعني أننا جاهزون لتطبيق معايير الجودة.
نتمنى من هيئة مكافحة الفساد أن تدرس مثل هذا الاقتراح، وأن تسعى إلى تطوير معيار للفساد تحدد بنوده بناء على واقعنا وسلوك منظماتنا وثقافتها التنظيمية، ثم تقوم بقياس نسبة الفساد في جميع أجهزة الدولة بصفة دورية تمنح بعدها كل منظمة شهادة تحدد الدرجة التي حصلت عليها في مجال الفساد، ولا يمنع من جائزة تمنح للمنظمات التي تنخفض نسبة الفساد فيها، وعندما تحصل المؤسسة على درجة ''5'' فساد'' على مقياس ''ليكرت'' يسمح لهذا النوع من المنظمات السير قدما للظفر بنيل معايير الجودة، وأرى في البداية أن يحدد معيار محلي للجودة دون المغامرة في الزج بمنظماتنا من أجل الحصول على معايير جودة دولية لا تناسب تواضع منشآتنا وقدرتها الإدارية وهشاشتها التنظيمية. كما يجب التنويه هنا إلى أن المعيارالمحلي للجودة لا يعد بديلا عن الجودة الدولية بل تمهيد له.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي