اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي .. الإنفاق العام
تمر المالية العامة للمملكة بمراحل دقيقة حاليًا، وذلك بالنظر إلى النمو الكبير في مستويات الإنفاق العام، بصفة خاصة الإنفاق العام الجاري، وذلك مقارنة بالنمو في إجمالي الإيرادات العامة للدولة.
فمن الواضح أن المملكة تواجه نموًّا كبيرًا في هذا الإنفاق، وعامًا بعد عام تضيف المملكة إلى التزاماتها الجارية أعباء دائمة في صورة رفع الإنفاق على المرتبات والدعم والخدمات العامة وغيرها من جوانب الإنفاق المدني التي يصعب التخلص منها في المستقبل عندما تميل الإيرادات العامة نحو التراجع، أو ربما سيكون التخلص منها مكلفًا للغاية من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمن المعلوم أن الإنفاق العام الجاري يتصف بصعوبة قابليته للتخفيض في المستقبل إذا ما طرأ طارئ ترتب عليه انخفاض الإيرادات العامة للدولة، وفي ظل جمود الإنفاق الجاري غالبًا ما تلجأ الدول بشكل عام إلى خفض الإنفاق الرأسمالي في حال حدوث أي انخفاض طارئ للإيرادات العامة بها؛ لأنه أسهل من حيث الآثار الاجتماعية والسياسية التي تترتب على تخفيض الإنفاق الاستثماري العالم.
في عام 1970م اقتصر إجمالي الإنفاق العام للمملكة على 6293 مليون ريال فقط، غير أنه مع نمو الإيرادات النفطية خلال هذه الفترة أخذ الإنفاق العام في المملكة في النمو بمعدلات غير مسبوقة، بلغت في المتوسط 48 في المائة سنويًّا، وفي عام 1980م بلغ إجمالي الإنفاق العام 236755 مليون ريال، وبشكل عام شهدت فترة الثمانينيات أعلى مستويات الإنفاق العام في المملكة على الإطلاق خلال هذه الفترة، ففي عام 1981م قفز إجمالي الإنفاق العام إلى 284650 مليون ريال، غير أنه بدءًا من هذا العام ومع تراجع أسعار النفط الخام أخذ الإنفاق العام للمملكة في التراجع على نحو مستمر حتى بلغ 137422 مليون ريال فقط في عام 1986م.
منذ هذا العام والإنفاق العام في المملكة يتقلب على نحو واضح من سنة إلى أخرى متأثرًا بالإيرادات النفطية بشكل أساس، ومع تراجع الإنفاق العام من أعلى مستوياته في عام 1981م لم يسترد الإنفاق العام في المملكة تلك المستويات سوى في عام 2004، حينما بلغ الإنفاق العام 285200 مليون ريال، ومنذ ذلك العام يتزايد الإنفاق العام في المملكة بمعدلات مرتفعة جدًّا، لدرجة أنه في عام 2011 بلغ إجمالي الإنفاق العام 840250 مليون ريال، الجانب الأكبر منه عبارة عن إنفاق جارٍ (612150 مليون ريال).
الشكل رقم (1) يوضح تطور كل من الإنفاق العام الجاري والرأسمالي في المملكة، ومن الشكل يلاحظ أن الإنفاق الجاري يميل نحو التزايد بشكل عام، خصوصًا في فترات ارتفاع الإيرادات العامة بفعل ارتفاع أسعار النفط، غير أن مستويات الإنفاق الجاري كما هو واضح من الشكل أخذت مسارًا مختلفًا منذ عام 2000 تقريبًا، وأخذا في الحسبان اتجاهات الإيرادات العامة، فإن المستويات الحالية للإنفاق العام الجاري والمرتفعة جدًّا تعد غير مستدامة، وستمثل تحديًا خطيرًا للمالية العامة في حالة تراجع الإيرادات العامة.
#2#
من ناحية أخرى فإن الشكل رقم (2) يوضح نسبة الإنفاق الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في المملكة، ومن الشكل يتضح أن نسبة الإنفاق العام إلى الناتج بلغت أعلى مستوياتها في عام 1990م، حيث قفزت إلى 43.1 في المائة، وخلال الفترة من 1985م حتى عام 1995م بلغت نسبة الإنفاق الجاري إلى الناتج المحلي في المتوسط نحو 35 في المائة، ومنذ عام 2000م حتى اليوم بلغت نسبة الإنفاق العام الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 27 في المائة.
على العكس من الإنفاق الجاري يلاحظ من الشكل أن الإنفاق الرأسمالي العام يتسم بالتقلب بصورة أكبر وبميله نحو التراجع بشكل عام مع أي تراجع في الإيرادات، حيث تعد الآثار الناجمة عن تخفيض هذا النوع من الإنفاق بصفة خاصة الاجتماعية والسياسية محدودة بشكل عام، كما سبقت الإشارة.
غير أن الآثار الاقتصادية لمثل هذا التخفيض تعد عميقة على المدة الطويل، حيث تتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي مع تراجع الإنفاق الاستثماري العام؛ لأن هذا النوع من الاستثمار غالبا ما يكون موجهًا نحو مشروعات البنى التحتية والسلع العامة الأساسية مثل الصحة والتعليم وشبكات الطرق وخطوط المياه والكهرباء وغيرها، وجميعها تصب في رفع القدرات التنافسية لقطاع الأعمال.
في عام 1981م بلغ الإنفاق الاستثماري أعلى مستوياته 171014 مليون ريال، منذ هذا العام انخفض الإنفاق الاستثماري بصورة واضحة ولم يستعد تلك المستويات سوى في عام 2009م.
كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تميل نسبة الإنفاق الاستثماري إلى الناتج المحلي إلى التراجع بشكل عام كما يتضح من الشكل رقم (2).
فعلى الرغم من أنه خلال الفترة من 1973م حتى 1985م بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 22 في المائة في المتوسط، وهي نسبة مرتفعة، فإنه بدءًا من منتصف التسعينيات بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مستويات متدنية للغاية، سواء بمقاييس الدول الغنية أو الدول الفقيرة في العالم، فخلال الفترة من 1993م حتى عام 2006م بلغ الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 3.4 في المائة، وهو متوسط متدنٍّ للغاية، لدرجة أنه في عام 1997 بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي أقل من 0.5 في المائة، وبشكل عام شهدت السنوات الخمس الأخيرة عودة الإنفاق الاستثماري العام إلى النمو بصورة ملحوظة، وهو أهم التطورات الإيجابية في الإنفاق العام في السنوات الأخيرة.
الخلاصة أن الإنفاق العام في المملكة بنوعيه اتسم خلال العقود الأربعة الماضية بالتقلب بصورة واضحة، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري، ولا شك أن مثل هذا التقلب يحدث تأثيره في مستويات النشاط الاقتصادي المحلي في المملكة باعتبار أن الإنفاق الحكومي هو أهم مكونات الإنفاق الكلي في الدول النفطية، وهو ما يعكس ارتفاع نسبة الإيرادات النفطية إلى إجمالي الإيرادات العامة وعدم القدرة على تطوير مصادر بديلة للإيرادات النفطية حتى اليوم.