سياسة الطاقة: حوار الطرشان
سعدت بالاستماع إلى حديث الدكتور هاشم يماني حول رؤيته الواضحة نحو استراتيجية للطاقة المتجدّدة في المملكة، وخاصة في جانبها الذري، في الحفل السنوي لخريجي جامعة MIT تتركز هذه الرؤية على أن الطاقة الذرية على الرغم من تكلفتها العالية الأولية إلا أنها أقل تكلفة في المدى البعيد (علماً أن الطاقة الذرية تعتبر طاقة بديلة وليست متجدّدة). وقبل ذلك بشهور استمعت إلى ندوة مفعمة بالحيوية حول الدور المرتقب لمركز الملك عبد الله لأبحاث البترول، في هذه الندوة كان النقاش مركزاً حول الطاقة الهيدروكربونية دون استعراض لسياسة طاقة متكاملة. استعرض الدكتور يماني مفاضلة اقتصادية لصلاح الطاقة الذرية، ولكن في ظل غياب سياسة طاقة شاملة. لعل أهم ما يلفت النظر أنه بدا وكأن هناك غرفتين منفصلتين تماماً للحديث عن الطاقة في المملكة.
منهجياً يصعب القفز من سياسة (كما تمارس) إلى سياسة بديلة دون تسعير الطاقة الحالية اقتصادياً. لما يصل استهلاك المملكة من النفط حجم استهلاك الهند وتكشف الأرقام مدى ارتفاع استعمال الطاقة قياساً على وحدة الدخل القومي مقارنة بالدول النفطية النامية، فلا بد أن هناك إشكالية. الهروب إلى الأمام من خلال الأخذ ببرامج طاقة موسعة دون تسعير الطاقة الحالية يصب في نهجنا الاقتصادي بنفخ الاقتصاد (من خلال المصروفات العالية) وزيادة العرض على حساب إدارة الطلب دون نمو حقيقي مستدام.
يقدر الدكتور يماني تكاليف البرنامج على مدى الـ 20 عاماً المقبلة بنحو 140 مليار دولار لبناء 16 مفاعلاً، ولكن التجربة علّمتنا مدى محدودية قدرتنا على إدارة مشاريع بهذا الحجم وصعوبة تقدير التكاليف حتى في أحسن الظروف. ليس الموضوع ضد أو مع أي مصدر للطاقة؛ فكلٍ لها مكان في خريطة الطاقة وأركان العلم، ولكن الإشكالية تبقى في استدراك سلم القيمة المضافة وتسخير الطاقة لإحداث نقلة نوعية في الكفاءة الاقتصادية. بدا لي أن برنامج الطاقة الذرية والمتجدّدة والنفطية يُدار بمعزل عن كفاءة الإدارة الاقتصادية ودورها المحوري في التنمية.
ما الحل؟
لا يمكن الحديث عن المملكة دون تسعير للطاقة. تسعير الطاقة سيعيد هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس مختلفة قابلة للاستدامة من خلال تعريض الشركات والمواطنين إلى التحديات الإنتاجية (التي هي المحدّد الأساس للنمو الاقتصادي). تسعير الطاقة عمل في صلب الإدارة الاقتصادية، وبالتالي يتعامل مع الإشكاليات الملحة قبل فوات الأوان. العلاقة وثيقة مع خيارات الطاقة الأخرى، إذ إن هناك عاملاً تربوياً اقتصادياً، نقصد بالتربوي أن الطاقة أحد أهم مدخلات العملية الإنتاجية، وبالتالي فإن تسعيرها حيوي في قيام هياكل اقتصادية صحية، لذلك فإن محاولة زيادة العرض دون إدارة واعية للطلب تعبير عن حوار الطرشان. إذا لم تدر ما لديك بكفاءة فكيف تدير الزيادة؟
قدّم لنا أحمدي نجاد في إيران الحل الممكن والمجرب: الاقتراب تدريجياً من الأسعار العالمية ودفع مبالغ تعويضية للمواطنين مباشرة. ذكر الدكتور يماني سلسلة القيمة، ولكن سلسلة القيمة تتكون مجتمعياً وليس في حلقة الطاقة الذرية وحدها. ارتقاء سلسلة القيمة يتطلب تسعير الطاقة اقتصادياً بجعل خيارات الطاقة الأخرى أكثر وضوحاً وجزءاً من سلسلة قيمة مضافة منطقية. الأحرى أن نكسر الحائط الذي بين الغرفتين ونتحدث بجدية أكثر عن سلم القيمة المضافة للمملكة، فحتى توطين التقنية والسعودة تصبح أكثر منطقية من خلال تجانس أكثر مع سلسلة القيمة المبنية على سياسة طاقة بناءة.