دعوة لاستنساخ صندوق عائدات النفط النرويجي

تتبوأ النرويج الصدارة في مؤشر التنمية البشرية منذ 2001 حتى اليوم في إنجاز تنموي غير مسبوق. لا يكمن السبب في كون تعداد سكان النرويج يقارب ستة ملايين نسمة أو ارتكاز الاقتصاد النرويجي على قاعدة ضخمة من موارد النفط والغاز، إنما تضاف إلى ما يضاف المبادرات المستمرة في تطوير منتجات لإدارة عائدات مواردها الطبيعية من النفط والغاز. إحدى هذه المبادرات صندوق النفط النرويجي الهادف إلى توفير موارد دخل متنوعة للأجيال القادمة.
تعود علاقة النرويج بإنتاج النفط إلى 1971 عندما بدأت عمليات الإنتاج من حقل إكوفس العائم في المياه الإقليمية النرويجية بعد جهود استكشافية استمرت قرابة العامين. شجعت عملية الإنتاج الحكومة النرويجية على تنظيم قطاع النفط بتأسيس شركة ستات أويل النفطية لتتولى الجوانب التجارية في صناعة النفط، وإنشاء الهيئة العامة للنفط لتتولى مهام وضع التشريعات ومراقبة تنفيذها، وإعادة هيكلة وزارة النفط والطاقة لتتولى مهام وضع السياسات النفطية والإشراف على تنفيذها، وإصدار تشريع برلماني يعطي الحكومة حق المشاركة بـ 50 في المائة من حقوق امتياز الإنتاج للامتيازات النفطية الممنوحة.
أسفرت الجهود الاستكشافية بعد ذلك عن اكتشاف المزيد من الحقول النفطية. شجّعت هذه النتائج على المضي قدما في استثمار عائدات النفط بما يسهم في الدعم المباشر للعملية التنموية حتى 1985 عندما أعلن عن برنامج جديد لإدارة عائدات النفط. شمل البرنامج توجيه جزء من حق امتياز الحكومة في الإنتاج النفطي إلى محفظة استثمارية بهدف تنمية موارد مالية جديدة من عائدات النفط. بدأت هذه المحفظة الاستثمارية في السعي إلى تحقيق مستهدفاتها المالية عندما اصطدمت بانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية نهاية الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي. لم يكن تحدي انخفاض أسعار النفط سوى جرس إنذار للسياسة المالية النرويجية في أهمية البحث عن وسيلة جديدة تسهم في مواجهة تحديات تراجع أسعار النفط.
أسفرت الجهود عن الإعلان في 1990 عن صندوق سيادي، باسم صندوق النفط النرويجي، بهدف توفير موارد مالية للأجيال تعتمد على موارد دخل متنوعة لا ترتبط بتذبذبات أسعار النفط. تباينت مبادئ الصندوق وأهدافه وحوكمته وحجمه عن المحفظة الاستثمارية السابقة، فشملت مبادئه وأهدافه تحقيق أعلى عائد استثماري للأجيال، واستهداف جميع القنوات الاستثمارية الممكنة خارج الاقتصاد النرويجي، وتغطية العجز في الموازنة العامة للدولة، وتوجه تغطية العجز إلى الدعم المباشر للميزانية العامة للدولة، وتحقيق عائد استثمار سنوي بمقدار 4 في المائة، وعدم تجاوز السقف الأعلى لدعم العجز في الموازنة العامة للدولة الـ 4 في المائة سنوياً من حجم الصندوق.
اتبعت المبادئ والأهداف بحوكمته بين أربع جهات رئيسة، فتولت وزارة المالية مهام الإدارة بعيدة المدى، تولى المصرف المركزي مهام التشغيل، وتولى مجلس استشاري أعلى مهام تقديم المشورة لوزارة المالية حول توجهات الصندوق وأدائه، وتولى البرلمان مهام اعتماد السياسات الاستثمارية والإنفاقية.
بدأ الصندوق بممارسة العمل الفعلي في 1996 بضخ سيولة مبدئية قاربت 350 مليون دولار أمريكي للاستثمار في السندات الحكومة ولتبدأ مسيرة تنويع في الأدوات والقنوات الاستثمارية. فبدأ الصندوق في الاستثمار في الأسواق المالية الناشئة في 2000، فالسندات التجارية والأوراق المالية المضمونة برهونات في 2002، فسندات التضخم في 2005، فالعقارات في 2008.
وعلى الرغم من النتائج الإيجابية التي تحققت إلا أنه حدث تطور مهم في مسيرة الصندوق عندما أعلن في 2004 المبادئ العامة لأخلاقيات استثمارات الصندوق. الهدف الرئيس من هذه المبادئ مراعاة حقوق المستهلكين لمنتجات وخدمات الشركات المساهم فيها من خلال استثناء الشركات المستهدف الاستثمار فيها عند تجاوزاتها الأخلاقية. من الأمثلة على هذه المبادئ عدم الاستثمار في شركات تصنيع الأسلحة والتبغ. ومن الأمثلة على الشركات المستثناة شركة دانيا سيبس الإسرائيلية بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي في بناء المستوطنات، وشركة بوينج الأمريكية بسبب صيانتها للصواريخ البلاسية العابرة للقارات، وشركة فيليب مورس الأمريكية بسبب إنتاجها للتبغ.
استمر الصندوق في تنويع أوزان أوراقه المالية وقنواته الاستثمارية بين 60 في المائة في الأوراق المالية و40 في المائة في العقارات. كما تباين التوزيع الجغرافي لهذه الاستثمارات بين 30 في المائة في الأوراق المالية الأوروبية، و21 في المائة في الأوراق المالية الأمريكية، و9 في المائة في الأوراق المالية الآسيوية، و40 في المائة في العقارات الأوروبية والآسيوية.
يشير التقرير السنوي للصندوق لعام 2011 إلى تحقيق الصندوق معدل عائد سنوي منذ نشأته قرابة 6 في المائة. يمثل هذا المعدل أعلى من المعدل السنوي للسقف الأعلى المعد لدعم العجز في الموازنة العامة للدول والمقدّر بـ 4 في المائة سنوياً من حجم الصندوق. سجلت أفضل هذه العوائد في 2003 بمقدار 12.59 في المائة بينما سجّلت أكثر الخسائر في 2008 بمقدار 23.3 في المائة.
يشير معهد الصناديق السيادية الأمريكي إلى وصول إجمالي أصول الصندوق الـ 611 مليار دولار أمريكي، واضعا إياه في المرتبة الثانية بعد صندوق أبو ظبي السيادي (627 مليار دولار) وقبل صندوق سيف الصيني (568 مليار دولار). كما أشار محافظ المصرف المركزي النرويجي الشهر الماضي إلى أن الصندوق سينتقل من مرحلة الاعتماد الكلي على عائدات النفط خلال العقد الماضي (2001 - 2010)، إلى مرحلة الاعتماد الجزئي خلال العقد الحالي (2011 - 2020)، تمهيداً لانتقاله لمرحلة الاعتماد الذاتي على موارده المالية خلال العقد ما بعد القادم (2021 - 2030).
وعلى الرغم من إنجازات الصندوق في تحقيق أهدافه المالية، إلا أنها لم تخل من تحفظات مجموعة من المراقبين. من أهم هذه التحفظات أن معدل السقف الأعلى لدعم العجز في الموازنة العامة للدولة البالغ 4 في المائة من حجم الصندوق يعد معدلا مرتفعا إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم الصندوق اليوم وتحقيق الموازنة فائضا مستمرا منذ منتصف التسعينيات الميلادية حتى اليوم. والأمر الآخر أن تخصيص 60 في المائة للاستثمار في الأسواق المالية يعد عالي المخاطر إذا أخذنا في الاعتبار خسائر الصندوق المحققة في 2008 بسبب الأزمة المالية العالمية. والأمر الأخير تسجيل حالات من التجاوزات للمبادئ العامة لأخلاقيات استثمارات الصندوق من خلال الاستثمار في أسهم بعض شركات صناعة الأسلحة.
تدعونا تجربة صندوق النفط النرويجي إلى الدعوة للنظر في إمكانية استنساخ التجربة بما يلائم العملية التنموية السعودية للاستفادة من عائدات النفط في تطوير رافد مستقبلي من روافد التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المملكة. دعوة إلى أصحاب القرارات التنفيذية في سياساتنا المالية والنقدية والتنموية لتكثيف الجهود الهادفة إلى طرح المبادرة والعمل على الحصول على القرار السياسي اللازم لتحويل المبادرة إلى واقع ملموس تتلمسه أجيال الغد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي