رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لماذا تفضّل الشركات التقسيط على النقد؟

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى أهم مصدر يهدر موارد المستهلكين الأفراد، وهو الشراء بالتقسيط. وركزت أغلبية المقال على آليات بيع السيارات بالتقسيط لأنه المثال الواضح أمامنا والذي نراه في كل مكان وفي كل حين. وفي هذا المقال نريد أن نعرف طريقة عمل البيع بالتقسيط، ولماذا تفضل بعض الشركات وتركن إلى هذا الأسلوب وتفضل تسعير منتجاتها بالتقسيط دون النقد؟ وكيف يقع المستهلك فريسة سهلة في براثن الشركات تسطو على أمواله بمحض إرادته؟
هناك ثلاث سياسات تنهجها الشركات عند تسعير منتجاتها وعرضها لأول مرة في الأسواق وهي: التسعير على أساس التكلفة، والتسعير على أساس القيمة، والتسعير على أساس المنافسة. وهناك استراتيجيات عدة تنهجها الشركات عند تغيير سعر السلعة أهمها وأكثرها مكرا وأخبثها دهاء استراتيجية تفصيل السعر بطريقة هزلية حتى يتضح للمستهلك أن سعر السلعة المعروضة أقل بكثير من منفعتها، كما يحدث في برامج البيع بالتقسيط. وحتى تتضح لنا الفكرة سنقوم بضرب أمثلة عدة، وهذا يحتم علينا الاستعانة ببعض المبادئ التي عرضها أستاذ التفاوض الشهير روجر داوسون، وهو إن كان قد أصّل مبادئه في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية إلا إنه أتى بها من تجارب قطاعات الأعمال فنراها تستخدم بشكل ملحوظ في مجال الأعمال والتسويق، خصوصا في مجال التسعير.
أبرز الشركات التي برعت في تسعير منتجاتها بطريقة هزلية هي شركات الطيران، والعقارات، ومتاجر بيع المفروشات، وشركات التأمين، والمؤسسات المالية من بنوك ونحوها. فعلى سبيل المثال تقوم بعض شركات الطيران عند عرض أسعار تذاكرها لترويج رحلاتها بعرض سعر تفصيلي للخدمة فتعرض في إعلاناتها أن تكلفة رحلة من لندن إلى نيويورك مثلا بـ 11 سنتا لكل ميل بينما المبلغ الحقيقي للراكب يفوق ألف دولار في بعض الأحيان. وكذلك يفعل سمسار العقار المحترف حينما يقول لمن يرغب في شراء منزل إن 53 سنتا في اليوم يعتبر مبلغا تافها لاقتناء منزل العمر بينما الحقيقة تقول إن تكلفة المنزل تفوق 100 ألف دولار. أما متاجر المفروشات فلها أسلوبها الفريد في استغلال الناس بطريقة السعر الهزلي حيث تعرض السرير المراد بيعه بعد أن تلبسه حلته من الضروريات وتعرضه في غرفة نوم جاهزة وليس منتجا مفردا وتضع السعر الهزلي للسرير فقط. وعندما يدخل المستهلك وينظر إلى طريقة العرض يخيل إليه أنه سيشتري السرير بكل أدواته وزينته بينما المنتج الحقيقي والسعر الهزلي المعروض هما للسرير فقط. وعندما يدفع المستهلك الثمن ويجرد السرير من كل زينته عندها يدرك العميل أن السعر الذي دفعه لا يستحق ولا يوازي المنفعة التي من أجلها دفع القيمة. ومن يتردد من المستهلكين في الشراء فإن مندوب المبيعات لهم بالمرصاد فيذكرهم والابتسامة بين شفتيه ويقول لمن يزهد في الشراء إن هذا السرير الذي تراه أمام عينيك لن تستخدمه بمفردك، أي أنك ستشارك فيه غيرك، وبهذا يريد أن يقنعك بأنك ستشتري سريرا واحدا يكفي لشخصين بدلا من سرير لكل فرد.
وهناك أمثلة أخرى لاستخدام السعر الهزلي تقوم بها المؤسسات المالية من البنوك وشركات الأموال والتأمين وما في حكمها. فعلى سبيل المثال تعبر البنوك عن الفائدة على قروضها بالنسبة المئوية وتتغافل عمدا المبلغ الحقيقي سواء أكانت بنوكا تقليدية أو ما تسمي نفسها البنوك الإسلامية. وهذا ما يفضله أصحاب المطاعم والملابس والمنتجات الاستهلاكية بشكل عام على استخدام المستهلكين للبطاقات الائتمانية رغم النسبة التي تدفعها هذه القطاعات لشركات التأمين لأن الدفع عن طريق البطاقات الائتمانية لا يقيد الشراء بعكس النقود الحقيقية التي تجعل المستهلك يفكر مليا قبل الإقدام ولا يشتري سوى الضروريات، فمن أهم صفات البطاقات الائتمانية أنها محفزة على الشراء.
تلجأ قطاعات الأعمال إلى تجزئة السعر بهذه الطريقة وتفضيل البيع بالتقسيط لا النقد لقناعتهم بأن المستهلك إذا لم يكن مطالبا بدفع نقود حقيقية فإنه على استعداد لمزيد من الإنفاق. وهذا ما يدفع أندية القمار - كما ذكرت في الأسبوع الماضي - في جميع صالات اللعب حول العالم إلى استبدال النقود الحقيقية بسبائك المقامرة. فقد لاحظ القائمون على ملاعب القمار أن الأفراد يحجمون عن اللعب إذا قدموا أموالهم كاملة نقدا أو قدموها على شكل معادن ثمينة كالذهب أو الفضة فقاموا باستبدال كل ذلك بنقود وهمية ويتم عرض المبالغ بطريقة هزلية، أي مبالغ بسيطة تحفز على اللعب على شكل قطعة كرتونية، فلم يعد يسمح باللعب بأموال حقيقية أو مجوهرات عينية، بل يقدم بدلا عنها قطع نقدية كرتونية لأنهم لاحظوا أن الفرد إذا رأى النقود الحقيقية كاملة أمام عينيه يتحسر عليها وقد يتردد في اللعب ويرجح الخسارة وغالبا ما يحجم عن ذلك، بل قد يهجر الصالات دون رجعة، أما إذا قدم بدلا عنها نقودا وهمية وبمبالغ ضئيلة فإن حماسه يتقد فيقبل على اللعب بشجاعة ويحقق أرباحا متتابعة فيستهويه اللعب ويستسهل الأمر ويتوقع الربح في كل جولة، لكن ما يلبث أن يفقد كل دانق يملكه لأنه منذ البداية ينظر إلى المبالغ الهزيلة التي تعرض له أمام عينيه بقيم بسيطة.
هذه هو السر وراء تفضيل بعض الشركات البيع بالتقسيط ناهيك عن بعض الأسباب الأخرى، التي بينت بعضها في مقال الأسبوع الماضي مثل إدمان المستهلك على الشراء بالتقسيط ورغبته في اقتناء الجديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي