اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي: الضغوط التضخمية (1)
يعرف الاقتصاديون التضخم بأنه ''الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار''، ومن هذا التعريف المقتضب نجد أن هناك شرطين للحكم على وجود التضخم، الأول هو أن يكون الارتفاع في الأسعار مستمرا، فارتفاع الأسعار خلال شهر أو شهرين مثلا لا يعد تضخما، إنما يطلق عليه عبارة ''ارتفاع الأسعار''، وليس التضخم. أما الشرط الآخر فهو أن يكون هذا الارتفاع في ''المستوى العام للأسعار''، أي أسعار معظم السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في المناطق الحضرية، غير أنه ليس شرطا أن ترتفع كل الأسعار أثناء التضخم، فمن الممكن أن تنخفض بعض الأسعار، ومع ذلك نقول إن هناك تضخما، لكن ما المستوى العام للأسعار؟ عندما يتم حساب المستوى العام للأسعار في أي دولة، فإنه يكون على شكل رقم قياسي Index، لسلة من السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في الحضر، وتقسم هذه السلع والخدمات إلى مجموعات، على سبيل المثال مجموعة الأغذية والمشروبات، ومجموعة الملابس والأحذية، ومجموعة الخدمات الصحية ... إلخ، وبطبيعة عملية حساب المستوى العام للأسعار فإن هذا المستوى يكون في سنة الأساس (أي سنة تكوين الرقم القياسي) مساويا 100.
بمرور الوقت تتغير أسعار السلع والخدمات ارتفاعا وانخفاضا، الأمر الذي يترتب عليه تغير مستويات الإنفاق للمستهلكين على المجموعات السلعية المكونة للسلة عن سنة الأساس، فنقوم بحساب الإنفاق على السلة مرة بضرب كميات السلع والخدمات التي يتم شراؤها حاليا في الأسعار الحالية لتلك السلع والخدمات، ومرة أخرى بالضرب في أسعار سنة الأساس، ثم نقوم بإعادة حساب الرقم القياسي للأسعار، ومن ثم فإن ارتفاع الرقم القياسي للأسعار يعني وجود ارتفاع في الأسعار، إذا استمر فإننا نطلق عليه تضخما.
مشكلة الرقم القياسي للأسعار أنه يحتوي على مجموعات من السلع تختلف نسبة إنفاق الأفراد عليها من شخص إلى آخر أو من مجموعة المستهلكين إلى مجموعة أخرى، على سبيل المثال فإن مجموعة خدمات السكن يختلف الإنفاق عليها بشكل جوهري بين مؤجري المساكن ومالكي المساكن التي يقيمون فيها. ففي أوقات التضخم ترتفع أسعار المساكن ومن ثم إيجاراتها بشكل واضح، فيشعر مؤجرو المساكن بعبء هذا المصدر من مصادر التضخم، بينما لا يشعر مالكو المساكن بهذا المصدر من مصادر ارتفاع الأسعار، أو قد ترتفع رسوم التعليم في المدارس الخاصة، فيشعر آباء التلاميذ في تلك المدارس بهذا المصدر، بينما لا يشعر به آباء التلاميذ في المدارس العامة، وهكذا.
بشكل عام قد يكون التضخم منخفضا (مكونا من رقم 1)، أو مرتفعا عندما يكون معدل التضخم السنوي مكونا من رقمين، أما أخطر أنواع التضخم فهو ما يطلق عليه التضخم الجامح Hyper-inflation، ويظهر عندما يحدث إفراط شديد في عرض النقود، بصفة خاصة في أوقات الحروب، أو عدم الاستقرار السياسي، فتحدث زيادات هائلة في الأسعار. كذلك قد يكون التضخم متوقعا، وأثر هذا التضخم في الأفراد محدود، لأنهم يأخذون هذا التضخم المتوقع في الحسبان في خطط إنفاقهم أو في أي عقود يبرمونها تتعلق بالمستقبل، مثل عقود العمل، عقود التأجير... إلخ، أو قد يكون التضخم غير متوقع، وأثر هذا التضخم في الأفراد خطير لأنهم لا يأخذونه في الحسبان عند إبرام عقودهم المختلفة ومن ثم يصعب عليهم مواجهة آثاره.
لكن ما الذي يسبب التضخم ويدفع بالمستوى العام للأسعار نحو هذا الارتفاع المستمر؟ بشكل عام هناك تفسيران للتضخم، الأول هو التضخم الناجم عن ضغوط الطلب على السلع والخدمات، ويطلق على هذا النوع من التضخم ''تضخم جذب الطلب Demand pull inflation''، ويحدث ذلك عندما يميل الطلب الكلي (طلب المستهلكين على السلع والخدمات الاستهلاكية، وطلب قطاع الأعمال على السلع والخدمات الرأسمالية، ومشتريات الحكومة من السلع والخدمات، وصافي صادرات الدولة) إلى الارتفاع، بصورة أكبر من قدرة الجهاز الإنتاجي في الدولة على مواجهة هذه الزيادات في الطلب، فتحدث ضغوط على الموارد المستخدمة في إنتاج السلع والخدمات (مثل العمال والمواد الخام.. )، وترتفع أسعار عناصر الإنتاج ما يؤدي إلى زيادة التكاليف ومن ثم الأسعار، وفي هذا النوع من التضخم ''يطارد إنفاق كبير للمستهلكين عرضا محدودا من السلع والخدمات''.
أما التفسير الآخر للتضخم فهو التضخم الناجم عن صدمات العرض، ويطلق على هذا التضخم ''التضخم المدفوع بالتكاليف Cost push inflation''، ويحدث ذلك عندما يتعرض جهاز عرض السلع والخدمات لصدمة نتيجة ارتفاع أجور العمال مثلا أو ارتفاع أسعار النفط ... إلخ، فتميل التكاليف نحو الارتفاع ومن ثم الأسعار، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للأجور، فيطالب العمال بأجور أعلى، ما يؤدي إلى استمرار ارتفاع التكاليف، فارتفاع الأسعار، وهكذا في حلقة حلزونية للارتفاع من الأجور إلى التكاليف إلى الأسعار، أو من سعر النفط إلى التكاليف إلى الأسعار، وهكذا، ويمكن القول إننا في الدول المصدرة للنفط نصدر التضخم إلى العالم في صورة الأسعار المرتفعة للنفط، ونستورد التضخم من العالم في صورة ارتفاع أسعار السلع التي نستوردها من الخارج.
وتشير المدرسة النقودية إلى أن التضخم في أي وقت، وفي أي مكان ظاهرة نقودية، أي ظاهرة تنجم عن الزيادة المستمرة في عرض النقود. فعندما تقوم الحكومة بإصدار المزيد من النقود فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة، وهو ما يساعد على تشجيع الطلب، ومن ثم ارتفاع الأسعار، ولذلك يطلق على الزيادة في عرض النقود في المجتمع على أنها ضريبة تضخمية، أي أنها بمنزلة ضريبة تحصلها الحكومة من الأفراد في المجتمع في صورة انخفاض القوة الشرائية للنقود التي يحتفظون بها بفعل زيادة الكميات المصدرة منها.
أما أصحاب مدرسة الطبيعة Naturalists، فيقسمون التضخم إلى نوعين؛ تضخم ناتج من الطبيعة Natural، الذي يعد دالة مباشرة في الأرض كعنصر نادر. حيث يؤدي ارتفاع ريع الأرض (بما في ذلك أسعار الموارد الطبيعية كالنفط)، إلى ارتفاع الأجور لمواجهة ارتفاع الريع، ما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف ومن ثم الأسعار، والتضخم الذي لا يرجع إلى الطبيعة، والناتج عن تدخل البنك المركزي من خلال ضخ المزيد من عرض النقود، وتعديل معدلات الفائدة. ومن ثم فإن علاج التضخم حاليا يتركز أساسا على البحث عن موارد طبيعية متجددة بحيث يثبت عنصر الريع ومن ثم تتم السيطرة على التضخم الذي يعود إلى الطبيعة.
لكن هل يتضرر عموم الأفراد من التضخم؟ الإجابة هي لا، لأن هناك فئات تضار من التضخم، وفئات تستفيد من التضخم، ولذلك غالبا ما نقول إن التضخم يحدث آثارا توزيعية، أي يعيد توزيع الدخل من فئات معينة لمصلحة فئات أخرى. فعندما يرتفع معدل التضخم تنخفض القوة الشرائية للدخول، لكن ذلك لا يعني انخفاض الدخول الحقيقية في الاقتصاد ككل، فما ندفعه في صورة أسعار مرتفعة لسلعة أو خدمة يذهب إلى طرف آخر في الاقتصاد، هم منتجو هذه السلعة أو الخدمة، وبشكل عام ينقسم الأفراد في المجتمع إلى مجموعتين، مجموعة لا تستطيع أن تعدل مستويات دخولها، بسبب ثبات مصادر دخلها، مثل الموظفين وأصحاب العقارات والمتقاعدين الذين يعيشون على المعاشات التي تدفعها الدولة... إلخ. وهذه المجموعة من الأفراد هي أكثر المجموعات تضررا من التضخم، لأن القوة الشرائية لدخولها الثابتة تميل إلى الانخفاض مع ارتفاع الأسعار، في الوقت الذي لا تستطيع أن ترفع من دخولها لمواجهة آثار التضخم، كذلك فإن أصحاب المدخرات في البنوك يتعرضون للخسارة في أوقات التضخم، حيث تميل القوة الشرائية لمدخراتهم في البنوك إلى الانخفاض بمرور الوقت بفعل التضخم، كذلك يتضرر المقرضون للأموال من التضخم غير المتوقع نظرا لتراجع القوة الشرائية للأموال التي أقرضوها. أما أصحاب الدخول المتغيرة، مثل التجار وأصحاب المهن الحرة... إلخ، فيستطيعون بسهولة تعديل مستويات دخولهم لمواجهة آثار التضخم. بينما يستفيد المقترضون للأموال في أوقات التضخم، حيث سيقترضون أموالا ذات قوة شرائية مرتفعة، ويعيدون سدادها بأموال ذات قوة شرائية منخفضة.
بقي أن نشير إلى أنه في الأوقات التي يرتفع فيها الطلب تميل فيها معظم الأسعار نحو الارتفاع ويحدث التضخم، فماذا عن الأوقات التي يقل فيها الطلب على السلع والخدمات، هل تنخفض فيها الأسعار؟ الإجابة هي بشكل عام لا، لأن الأسعار والأجور في مجملها تتسم بعدم القابلية للانخفاض Sticky، أي أنها ترتفع في أوقات زيادة الطلب، بينما تثبت ولا تنخفض في أوقات انخفاض الطلب.
عزيزي القارئ، كانت هذه نبذة أساسية تهدف لإعطاء خلفية عن مفهوم التضخم ومسبباته بشكل عام. في الأسبوع القادم سنتناول اتجاهات التضخم والعوامل المسؤولة عن التضخم في المملكة - إن شاء الله.