عودة تيسير السياسات النقدية في العالم
نظرا لتصاعد المخاطر في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة، نتيجة ارتفاع درجة عدم التأكد الناتجة عن المخاطر الكامنة من مشكلة ديون أوروبا، فإن درجة عدم التأكد المحيطة باقتصاديات العالم تعد في أعلى مستوياتها حاليا، ونتيجة لذلك يتراجع معدل النمو في معظم أنحاء العالم المتقدم والناشئ على السواء. في مواجهة الضغوط على النمو نحو التراجع فقد العالم قدرته على استخدام أدوات السياسة المالية نظرا لبلوغ أدوات السياسة المالية حدودها القصوى، وبلوغ المخاطر المصاحبة للسياسة أوجها مع تصاعد الديون السيادية للعالم إلى مستويات خطيرة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. الخيارات المتاحة للعالم للتعامل مع أزمة النمو أصبحت محدودة للغاية، ولذلك عاد العالم ليجرب مرة أخرى تيسير السياسات النقدية لرفع مستويات النشاط الاقتصادي ووقف الاتجاه النزولي في النمو.
أهم الدول التي تتجه نحو تيسير سياساتها النقدية حاليا هي اليابان والصين، اللتان تتشابه مشكلاتهما إلى حد كبير مع وجود بعض الفوارق في المسببات. ففي الصين تتراجع حاليا معدلات النمو في الكثير من القطاعات في الاقتصاد الصيني، بصفة خاصة سوق المساكن، حيث يمثل تراجع الاستثمار في قطاع المساكن أحد المخاطر الأساسية التي تواجهها الصين اليوم، كذلك تتراجع الصادرات الصينية متأثرة بمشكلة الديون الأوروبية، ويتراجع نتيجة لذلك معدل النمو في احتياطياتها، كما كان معدل النمو في عرض النقود (رقم 1) سالبا لهذا العام.
جاءت استجابة صانع السياسة الصيني لهذه المشكلات في تيسير السياسة النقدية، حيث قام البنك المركزي بتخفيض نسبة الاحتياطي القانوني بمقدار نصف في المائة من 21 في المائة إلى 20.5 في المائة بدءا من 24 شباط (فبراير) هذا الشهر، وذلك لمساعدة البنوك الصينية على منح المزيد من التسهيلات الائتمانية للمحافظة على استمرار معدلات النمو الاقتصادي. تجدر الإشارة إلى أن هذه النصف في المائة سيمكن البنوك الصينية من تحرير نحو 400 مليار يوان من احتياطياتها القانونية والتي يمكن استخدامها بشكل مباشر في التوسع في عمليات الإقراض.
البنك المركزي الصيني يقاوم حتى الآن تخفيض معدلات الفائدة، حيث ما زال التضخم مرتفعا بعض الشيء (نحو 4.5 في المائة)، ومع تراجع الضغوط التضخمية فإن البنك المركزي الصيني سيقوم بتخفيض معدلات الفائدة، ما يعني أن معدلات الفائدة ستظل أداة ثانوية للسياسة النقدية في الصين وأن التركيز الأساسي حاليا هو على استخدام معدلات الاحتياطي القانوني، وتشير الدلائل المتاحة إلى أن التخفيض الحالي في نسبة الاحتياطي القانوني لن يكون التخفيض الأخير، حيث يتوقع أن يتزايد عرض النقود (رقم 2) في الصين هذا العام في حدود 14 في المائة، وهو ما يعني أن الخفض في معدل الاحتياطي القانوني الحالي لن يكون كافيا لهذا العام، ومن المتوقع أن يتم تخفيض المعدل مرة أو مرتين في الجزء المتبقي من السنة. المحصلة النهائية المتوقعة من هذه الإجراءات هي حدوث تراجع في معدل الفائدة، لتشجيع قطاع المساكن الذي تراجعت الأسعار به أو توقفت في بعض الأحيان عن الارتفاع، ورفع مستويات النمو في باقي القطاعات.
من ناحية أخرى، هناك تقارير تشير إلى تدخل البنك المركزي الياباني في سوق الصرف الأجنبي بشكل مكثف، وعلى نحو خفي في الوقت ذاته، لبيع الين (تسهيل السياسات النقدية) بهدف الحد من ارتفاعه، والضغط على قيمته للاتجاه نحو الانخفاض، وذلك لزيادة درجة تنافسية الصادرات اليابانية. التقارير المتاحة تشير إلى أن اليابان استخدمت نحو تريليون ين في الأيام الأربعة الأولى من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وكذلك استخدمت نحو ثمانية تريليونات ين في تشرين الأول (أكتوبر) عندما صعد الين إلى مستوى 75 ينا للدولار. بالطبع هذه العمليات تحدث تأثيرا سلبيا على قيمة الين، والتي تمر حاليا مرور الكرام دون أن يلاحظها، أو ربما دون أن يعلق عليها، صانعو السياسة في الدول المنافسة لليابان، ربما بسبب الأوضاع السيئة التي يمر بها الاقتصاد الياباني.
عمليات التيسير النقدي في اليابان تتم دون أن تحدث تأثيرات ملموسة على الأسعار، ولذلك يستهدف بنك اليابان المركزي معدل تضخم 1 في المائة، والذي يعد منخفضا نسبيا، وقد تم انتقاده على أنه يعكس استعداد اليابان لتحمل ين مرتفع القيمة، ويرغب بعض أعضاء البرلمان الياباني في مضاعفة هذا المعدل المستهدف مرتين أو ثلاث، لا شك أن هذا سيتطلب تيسيرا كبيرا في السياسات النقدية اليابانية. استجابة بنك اليابان المركزي بتيسير سياساته النقدية جاءت في أعقاب الانتقادات والضغوط السياسية. بالطبع مع معدلات فائدة تراوح بين 0 و0.1 في المائة، فإن تيسير السياسة النقدية لا يمكن أن يأتي من جانب معدلات الفائدة، ويجب أن يتم أساسا من خلال التيسير الكمي، وللتبسيط فإن التيسير الكمي هو سياسة تهدف إلى زيادة عرض النقود من خلال تعديل هيكل الأصول في ميزانية البنك المركزي، وقد تم بالفعل إضافة عشرة تريليونات ين في عمليات شراء أصول قام بها البنك المركزي الياباني. التيسير الكمي الياباني هدف أساسا إلى وقف الارتفاع المستمر في قيمة الين الذي أثر بشكل سلبي على الصادرات اليابانية وميزان المدفوعات الياباني، كما تناولنا ذلك في الأسبوع الماضي بالتفصيل.
أخيرا أيضا قام البنك المركزي في الهند بخفض نسبة الاحتياطي القانوني من 6 إلى 5.5 في المائة لأول مرة منذ 2009 وهو ما يسمح للجهاز المصرفي بزيادة حجم الائتمان من خلال تخفيض نسب السيولة المطلوبة في البنوك، وتشير التقارير الواردة عن البنك المركزي إلى أن الهند في سبيلها لتخفيض معدلات الفائدة عندما تميل الضغوط التضخمية في الهند نحو التراجع، وتنوي الهند تخفيض عجز ميزانيتها العامة لتخفيف الضغوط على سوق الاقتراض ومن ثم السماح بخفض معدلات الفائدة بسهولة.
كذلك قام البنك المركزي الإندونيسي بخفض معدل الفائدة الأساسي لأول مرة منذ ثلاثة أعوام من 6 إلى 5.75 في المائة، وأعلن البنك المركزي البريطاني أنه سيضخ 50 مليار جنيه في الاقتصاد البريطاني لحماية التعافي الاقتصادي من التأثير المحتوم لأزمة الديون في منطقة اليورو. كما قامت دول ناشئة أخرى في العالم بخفض معدلات الفائدة مثل البرازيل وروسيا والفلبين.
يوما بعد يوم يتزايد اتجاه العالم نحو تيسير السياسات النقدية، خصوصا أن مخاطر تيسير السياسات النقدية في العالم تعد محدودة للغاية بسبب حالة الانكماش التي يعانيها العالم، ففي ظل الانكماش الحالي يصبح ارتفاع الأسعار أمرا غير متوقع.