نموذج الإصلاح الهيكلي المفقود
إذا أردنا أن نحصر السياسات الاقتصادية التي تتبناها أي حكومة لتعزيز التنمية والنمو الاقتصادي بها، نجدها تنحصر في العناصر الرئيسة التالية: 1) السياسة المالية، 2) السياسة النقدية، 3) السياسات الاقتصادية الهيكلية. وقد يكون من السهل فهم العنصرين الأولين ـــ السياسات المالية والسياسات النقدية وسياسات القطاع المالي ـــ وتأثيراتها المختلفة في الاقتصاد، لكن سياسات الاقتصاد الهيكلية هي الأكثر تعقيدًا، والأكثر تأثيرًا من العنصرين الأولين في التنمية والنمو الاقتصادي.
فتأثيرات السياسات المالية والنقدية تتعلق غالبًا بالمدى القصير والمدى المتوسط، بينما تتعلق السياسات الاقتصادية الهيكلية بالمدى الطويل، الذي يمثل مسار وإمكانات النمو الاقتصادي التي يمكن أن يبلغها الاقتصاد. فلكل اقتصاد إمكانات نمو اقتصادي معينة بناءً على مزيج من العناصر الإنتاجية المختلفة فيه كالعمل ورأس المال، وبناءً على تفاعل هذه العناصر مع بعضها بعضًا من خلال التشريعات والأنظمة التي تنظم جميع الأنشطة الاقتصادية المختلفة لتنتج مزيجًا من المنتجات والأسعار المختلفة.
السياسات المالية والنقدية قد تؤدي إلى تسهيل وتوجيه الاقتصاد إلى مسار النمو الاقتصادي الذي ترسمه العناصر الإنتاجية، التي أشرت إليها، بظروفها الحالية، لكنها لا تستطيع رفع هذا المنحنى إلى أعلى. لذلك يخطئ البعض عندما يعتقد أن زيادة الإنفاق العام والسياسة النقدية المتراخية قد تؤدي إلى زيادة متوسط الدخل الفردي، ومن ثَمَّ إلى زيادة إمكانات استهلاكه. هذا قد يحدث بالطبع على المدى القصير، لكن ذلك بالطبع سيكون على حساب مستوى الدخل وإمكانات الاستهلاك على المدى الطويل، فما تم إنفاقه اليوم، سيتم بالتأكيد تسديده في المستقبل.
لكن زيادة إمكانات الإنتاج والنمو الاقتصادي، أي رفع منحنى إمكانات الإنتاج إلى أعلى، يتم بالعمل على تحسين مزيج العناصر الإنتاجية المختلفة. فبدلًا من الاعتماد على العمل ورأس المال فقط، فيمكن الاستفادة من التقنية لتعزيز إنتاجية العمل أو رأس المال أو كلاهما معًا. العمل على تعزيز نوعية العمل، وتعزيز نوعية رأس المال، مع مزيد من التقنية، ومزيد من البحث والتطوير، سيساهم بالطبع في حفز إمكانات الإنتاج للاقتصاد، ليس على المدى القصير فقط، ولكن على المدى الطويل أيضًا.
هذا بالطبع هو الفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية في استخدام نوعية ذات جودة عالية من مزيج العمل ورأس المال والتقنية والبحث والتطوير، وغير ذلك من الوسائل التي تعزز إمكانات الإنتاج. لذلك تجد بمقارنة بسيطة بونًا شاسعًا بين إنتاجية الفرد في الدول المتقدمة والدول النامية، وكذلك بونًا شاسعًا بين مستويات الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتقدمة والدول النامية. السؤال الذي أسمعه الآن من القارئ الكريم، هو كيف يمكن أن نعزز إمكانات الإنتاج في اقتصادنا أو في أي اقتصاد آخر، وهذا سؤال إجابته ليست بمليون بل بمليارات الريالات.
التركيز على الإصلاح الهيكلي بجميع عناصره المختلفة، مرتكز أساس ومحوري لتعزيز إمكانات الإنتاج في الاقتصاد. وجوانب الاقتصاد الهيكلي متعددة، منها أسواق المنتجات، أسواق الخدمات، سوق العمل، التجارة الخارجية، الصناعة، والتعليم. هذه العناصر المختلفة تتمازج فيما بينها لتشكل المزيج الأمثل لتعزيز إمكانات الإنتاج، وتعظم المنافع الكلية للاقتصاد والمجتمع. لكن ما يجب أن ينبه إليه أنه ليس هناك حل واحد، أو مزيج واحد، يمكن تطبيقه على كل دولة، ومن ثَمَّ نستطيع تعزيز إنتاجية الاقتصاد فيها، ولكن هناك ظروف مختلفة، ووصفة مختلفة لكل دولة، حسب ظروفها، وحسب إمكاناتها الاقتصادية.
الذي يمكننا الاتفاق عليه، هو مجموعة من المبادئ التي تحكم عملية الإصلاح الاقتصادي. ومن أهم هذه المبادئ شمولية عملية الإصلاح الاقتصادي، وتناغمها واتساقها في الوقت نفسه. فلا يمكن العمل على اجتذاب رأس المال الأجنبي بمعزل عن مراعاة الجوانب المؤثرة في ذلك والمتعلقة بسوق العمل، أو المنافسة العادلة في المجتمع. كذلك يجب أن يكون هناك إلمام شامل وقبول من أفراد المجتمع، لعملية الإصلاح، مما يزيد من فرص نجاحها، ويقلل من تكلفة وضعها موضع التنفيذ. كما أن عملية الإصلاح الهيكلي هي عملية مستمرة لا يمكن تقف عند تحقيق إنجاز معين. كذلك يجب أن تنطوي عملية الإصلاح الهيكلي تحت مظلة واحدة، تعمل على تنسيق أهدافها، والتأكد من وضعها موضع التنفيذ، وتوفير الدعم المعنوي والقيمي لها. وأخيرًا وهو المهم، أن تكون عملية الإصلاح الهيكلي مدعومة بقاعدة بحثية ومعلوماتية مستقلة، لتساهم في التقييم المحايد للإصلاح الهيكلي بكل جوانبه. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ويحتاج إلى بحث أكبر، هو أين وكيف نجد مثل هذا النموذج؟