د. الغذامي: موقف أدونيس من الواقع العربي غير ثقافي ويفتقد الموضوعية

د. الغذامي: موقف أدونيس من الواقع العربي غير ثقافي ويفتقد الموضوعية

على منصة كلية الآداب بجامعة الملك سعود مجددا وضمن برنامج ''تواصل'' الثقافي، وفي المكان نفسه الذي شهد محاضرته - الشهيرة - عن ''الليبرالية الموشومة'' عاد البروفيسور عبد الله الغذامي ليتصدر اهتمامات المشهد الثقافي خلال الأسبوع الماضي بمحاضرة عنوانها ''الوسطية وما بعد العولمة'' أدارها الدكتور عبد العزيز الزهراني وحضرها عدد من الأكاديميين والطلاب والباحثين من مختلف الكليات، كما نقلت تلفزيونيا إلى مقرات الجامعة في عليشة والملز، وشاهدها أكثر من ألف شخص مباشرة عبر الإنترنت.
أستاذ النظرية والنقد اختار لورقته هذه المرة أن تقوم على استقراء مفهوم الوسطية في عمقه الدلالي ومساءلة تطبيقاته الواقعية دون عزلها عما تضمنته مدونات التراث الفكري من تعريفات لهذا المفهوم، حيث ارتكز الغذامي في محاضرته على أن الوسطية تختلف عن ''الوسط'' وأنها لا تعد صفة بقدر ما هي ظرفية اجتماعية، كما أنها ليست نظرية ذات قوة معرفية تتمايز عن غيرها، في حين يرى الغذامي أن العدل هو نظرية إدارة الدولة والمجتمع وهو القيمة التأسيسية التي تقوم على الحق والجوهر دون أن تأخذ السمة التنازلية أو التفاوضية، واستشهد في هذا السياق بمقولة القرطبي في تعريف العدل وتقسيمه إلى ثلاثة أنواع هي علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالآخرين، كما توقف عند رؤية ابن تيمية حول قيام الكيانات والدول على العدل كسبب رئيسي بغض النظر عن المكون العقدي لها.
وفي حديثه عن البناء المفاهيمي، قدم الدكتور الغذامي في محاضرته نموذج المدينة المنورة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كتطبيق عملي للوسطية التي تعيد صنع الواقع بناء على قيم تصالحية تستمد روح تغييرها الإيجابي من تأثير اللغة ووظائف المسميات المختلفة وذلك في إطارها الظرفي الخاص، وأشار الغذامي في هذا الجانب إلى تغيير اسم يثرب إلى المدينة، وقريش إلى المهاجرين، والأوس والخزرج إلى الأنصار، كما تطرق للتعبير المستخدم في حديث الرسول الكريم ''حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه'' مشيرا إلى أن المعني بهذا الحديث كان المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول ورغم ذلك لم يشأ الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذكر نفاقه على اعتبار أن هذه الحقيقة لا تغير شيئا في كون الآخرين ينظرون له كصاحب من أصحابه.. ويضيف الغذامي ''المدينة صنعت البنية الإيجابية المتصالحة للوسطية عندما غيرت بنية المصطلحات من طبقية إلى وظيفية، وهو ما جعلها عمليا تضع التاريخ أمامها وتبدأ في التقدم والبناء عليه بدلا من التوقف على تاريخ سابق بكل ما فيه من مكونات تعوق التقدم المدني''.
وقد تطرق المحاضر إلى الواقع السياسي العربي وماشهده من تداول بعض التيارات الدينية لشعارات جديدة عوضاً عن شعاراتها السابقة التي مثلت إشكاليات منهجية لبعضها، فيستعرض مثلا تجربة الانتخابات التي شهدت استخدام لفظ الدولة المدنية والديمقراطية والعلمانية والحداثة في خطابات عدد من السياسيين المحسوبين على التيار الإسلامي في عدة دول عربية، وفي هذا الشأن يرى الغذامي أن التجربة الديمقراطية التي نتجت عن الواقع العربي الجديد مازالت غير قابلة للحكم عليها في المرحلة الحالية، مشيراً إلى أنها في مشارف مرحلة ''صناعة النظرية'' وأن المحك الحقيقي لها سيكون بعد أربع سنوات وحينها إن لم يستشعر الناس أنها جاءت لهم بنجاح فعلي فسيرفضون تجديد انتخابها، معلقاً ''النموذج التركي قام على فكرة النزاهة، والماليزي قام على فكرة الإنجاز.. وفي العالم العربي نحن أمام المفهومين معاً.. ولا يمكننا أن نقول عن تجربة إنها نجحت إلا بعد أن ترتكب أخطاء، وتصححها''.
وقال الغذامي في محور آخر إن الإقصاء والتصنيف لا يستدعي الخوف وإن وسائل هذه الأحكام تغيرت مع الزمن فأصبحت تصل إلى المعني بها بعد أن كان هذا غير ممكن في وقت سابق، ويعلق ''توفرت الوسيلة الآن فانكشف كل شيء، ولهذا يجب أن تتسع صدورنا للحوار، فإن وجدت إقصائيا فلا تمارس عليه الإقصاء، ولكن عليك أن تساعده على نفسه ليكتشف إقصاءه هو.. وكذلك إن رأيت عنصرياً فكن عوناً له على اكتشاف ذلك فيه.. فلتسأل نفسك .. هل أنا مثله؟ ولتعرف أنك إذا كنت منصفا لغيرك فأنت بالضرورة منصف لنفسك ولأهلك، وإذا عالجت نفسك فأنت قادر على معالجة الكون.. حتى إن لم يكن هذا باستطاعتك .. يكفي أن باستطاعتك إصلاح نفسك على الأقل''
ما يمكن لمتابع دقيق ملاحظته في هذه المحاضرة هو أن قليلا من الاستطرادات التي ذكرها الغذامي كانت كافية للتعبير عن انزعاجه من الطريقة التي عومل بها إبان فترة الحداثة التي كان عنوانها الأبرز، مشيراً إلى أنها قامت على مجرد إطلاق التعدي اللفظي المقتصر دائما على وصفه بالحداثي دون مراجعة المشروع أو مساءلته موضوعيا، وفي استطراد آخر يحمل السمات ذاتها تقريباً قال الغذامي إنه جلس مع الشيخ ابن عثيمين لمدة ثلاث ساعات وشرح له مفهوم الحداثة حيث يذكر أنه لم يعد - رحمه الله – لتناول هذا المفهوم بعد ذلك وإنما ظل يكتفي بالإجابة عن الأسئلة التي توجه إليه بتحديدها الأدبي أو الموضوعي وليس من خلال ارتباطها بالحداثة من عدمه.
الغذامي قال في هذا السياق إن أخطاء كثيرة ارتكبت في حق الحداثة على مدى 30 عاماً، وانتقد الأحكام التي أطلقت على أشخاص دون مراعاة وجوب أن تقترن بدليل قانوني أو فكري وشرعي، وشدد على قيمة الحوار كعامل منتج لبيئة التوافق وعلى العصف الفكري الجماعي كطريق إلى حل مختلف الأزمات، كما اتفق مع المداخلة التي وصفت ''الوسطية'' بأنها توجد في صندوق وعليها حراس حولهم عقبات، معقباً على هذه الصورة بقوله ''نعم هي كذلك، لكن علينا أن نشمر عن سواعدنا ونصنعها في أنفسنا، كل واحد لديه جزء صغير من هذا المفهوم يطبقه ذاتياً في محيطه النفسي والأسري والاجتماعي''.
وفي محور ثالث، جدد الغذامي تعليقه على موقف أدونيس من الواقع العربي الجديد وقال إن معطيات هذا الواقع جاءت بعكس ما يريده هذا الأخير وهو ما يجعله يتصرف بشكل غير ثقافي ويتخذ موقفاً يفتقد العلمية والمنهجية والموضوعية.. مؤكدا قبل ذلك رفضه لتلقي النقد للحداثة لدى من ينظرون إليها عبر نموذج الشاعر صاحب ''الثابت والمتحول''، حيث علق صاحب ''الخطيئة والتكفير'' هنا بقوله ''أنا الغذامي ولست أدونيس!''
''المعاني ليست بلفظها دائما وإنما بمدلولها ووظيفتها وماتؤول إليه''.. إحدى عبارات الغذامي اللافتة التي طبقت نفسها لا إرادياً عندما استشهد بالمدينة كنموذج للمدنية، وذلك في محاضرة كان عنوانها أقل جاذبية جدلية من سابقتها، واختار محاضرها أن يعلق على الجزئية الأولى ''الوسطية'' فقط مؤجلا مناقشة ''ما بعد العولمة'' إلى مناسبة أخرى.. لم يكن ليحل دون حضور الكثيرين ممن جاؤوا إلى المحاضرة اعتمادا على اسم محاضرها وقراءته المختلفة للمفاهيم، حتى وإن تعلق كذلك بمفهوم يراه البعض ''مستهلكا'' أو ''أبيض'' و''غير فعال'' كما هو الحال مع مصطلح ''الوسطية'' بحسب رؤية أكاديميين رأى بعضهم أيضاً أن هذه الكلمة أصبحت محل ادعاء غير دقيق بالضرورة من مختلف الأطراف، وقد رد الغذامي متفقا مع عدد مع هذه الرؤى ومؤطرا بعضها الآخر في برواز علمي ومنهجي، فيقول ''أفضل أن أسميه مصطلحاً نظيفا وليس أبيض، علينا أن نسائل المصطلحات قبل اتخاد موقف منها، فإن لم نفعل فستعمى عيوننا وننتج معرفة ضبابية''.

الأكثر قراءة