ما هي قصة اليونان؟
بينما كان الإعلام في الشرق الأوسط منصبا على الأحداث الدموية في سورية كان الإعلام الغربي منشغلا ليل نهار دون انقطاع بما صار يعرف هنا بـ "الأزمة اليونانية".
وكنت قد وضحت في مقال سابق أن دول الاتحاد الأوروبي ولا سيما التي تستخدم عملة اليورو للتداول أمامها ثلاثة خيارات للتعامل مع الأزمة وثلاثتها قد تؤدي إلى نتائج غير حميدة.
هناك مشكل كبير في الخطاب الاقتصادي كما هو الشأن مع الخطاب السياسي. المختصون ومنهم السياسيون يضعون الأمور في قوالب لغوية عويصة يصعب فهمها وفك طلاسمها. والطلسم اليوناني حاليا أكثر تعقيدا من فلسفة أرسطو وسقراط وأفلاطون ــ حكماء اليونان الذين يعود الفضل إليهم في تطور الفكر الإنساني.
وكي أبسط للقارئ دعنا نقارب ونقارن الأزمة هذه كما نفعل مع المسائل الفكرية التي يتناولها هذا العمود. ما حدث لليونان يمكن مقاربته لما يحدث لشخص دخله ألف دولار في الشهر، ولكنه ينفق ألفي دولار. الزيادة في النفقات يحصل عليها من خلال القروض (الدين).
وبدلا من أن يفكر هذا الشخص مليا كي يغير سلوك حياته يبدأ بالبذخ لأن الحصول على القروض (الدين) مستساغ. وتتراكم الديون ويزداد الطلب على القروض. وعندما يستحق أجل الدفع، تكون جيوب هذا الشخص خاوية. وحالما ينتشر خبر الجيوب الخاوية يوقف الدائنون (ولا سيما البنوك) ضخ أموال أخرى.
وفجأة يرى هذا الشخص أنه في ورطة كبيرة ويعلن إفلاسه. ويبدأ الدائنون بالحجز من خلال المحاكم على كل ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة وقد يودعونه السجن.
حكومة اليونان اقترضت أكثر من 400 مليار دور. والحكومات المتعاقبة ولا سيما في العقد الأخير أنفقت أغلب هذه الأموال في مشاريع عامة كثيرة منها ما لا علاقة لها بالنمو والتطور الاقتصادي مثل الملاعب لاستضافة الأولمبياد وزيادات كبيرة في أجور العاملين في الدولة.
ووقعت اليونان في مطب مشابه حيث لا تستطيع دفع مستحقات ديونها الهائلة مما حدا بالمراكز المالية العالمية تحذير الدائنين من أن قابلية البلد لدفع ديونه قاربت الصفر. ولكن إشهار إفلاس دولة مثل اليونان ليس مثل إفلاس شركة أو شخص. والأسباب كثيرة.
أولا، معظم ديون اليونان عائدة إلى بنوك أوروبية ولا سيما الألمانية منها. وهنا تكمن الرغبة الشديدة لألمانيا في إنقاذ اليونان. إنها عمليا تنقذ بنوكها.
ثانيا، أظهرت اليونان أنها ربما بئر بلا قعر. قد لا يعرف القراء ما فعلته أوروبا وبالذات ألمانيا لإنقاذ اليونان حتى الآن. في تحليل اقتصادي نشر في بلومبرك ظهر أن مجمل حزم المساعدات المالية التي قدمت لليونان حتى الآن تبلغ 386 مليار يورو. سكان اليونان يبلغ عددهم 11.3 مليون نسمة. بمعنى آخر أن حصة كل فرد في اليونان من هذه الحزمة الهائلة يبلغ نحو 35 ألف يورو (نحو 45 ألف دولار).
ثالثا، هذه الأموال لن تذهب إلى جيوب اليونانيين ولن تستخدم في تطوير الاقتصاد اليوناني. على العكس تماما حيث ستستخدم لإيقاف البلد على قدميه أي تمكينه من دفع ديونه متكئا على الحزمة وكذلك على الاستقطاعات الكبيرة في النفقات التي أدت إلى تقليص الأجور وحتى معاشات التقاعد.
رابعا، لن يكون للحكومة والشعب اليوناني حرية التصرف أو التحكم في الاقتصاد والمال. ستكون هناك لجنة مشرفة من الألمان وآخرين تجبر اليونانيين على التصرف وفق ما تم الاتفاق عليه، أي أن تتمكن اليونان من تسديد ما بذمتها من ديون حين استحقاقها.
رابعا، فجأة رأى الكثير من الوطنيين في اليونان أنهم أمام احتلال أو استعمار جديد تقوده ألمانيا وحسب ما أوردته مجلة "الإيكونوميست" بدأ الكثير من الكتاب والمفكرين اليونانيين يشبهون أنجيلا ميركل وزعماء ألمان آخرين بهتلر والنازية.
وأخيرا، هناك شكوك كبيرة في أن تنجح ألمانيا في إنقاذ اليونان ومن خلالها بنوكها التي كانت تقرض هذا البلد دون حساب. اليونانيون مقبلون على انتخابات برلمانية في نيسان القادم وهم يرون كيف أُجبرت حكومتهم على تقليص معاشاتهم وخفض الحد الأدنى للأجور وتقليص عدد العاملين في القطاع العام والخدمات وخفض نفقات التعليم والصحة وهناك قائمة طويلة ومؤلمة من الطلبات منها بيع شركات القطاع العام. كثيرون في اليونان يعتقدون أنه لم يعد هناك شيء كي يخسروه لو تحدوا إرادة ألمانيا.
وإلى اللقاء،،،،