القضاء على فقر الطاقة.. بين الواقع والطموح (2 من 2)
في المقال السابق تطرقنا إلى الجهود والمبادرات العالمية والإقليمية المبذولة في سبيل مكافحة فقر الطاقة وتوفيرها للجميع بما في ذلك مبادرة ''الطاقة من أجل الفقراء'' التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والسنة الدولية للطاقة المستدامة للجميع التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة، في هذا المقال سيتم التطرق إلى حجم الاستثمار المطلوب، المناطق الأكثر فقرا للطاقة في العالم وبعض الأساليب العملية المتاحة لتزويد المجمعات السكنية الصغيرة بالطاقة.
حسب وكالة الطاقة الدولية، استثمر العالم نحو 9.1 مليار دولار في عام 2009 في مجال توسيع نطاق الحصول على خدمات الطاقة الحديثة، مثل الكهرباء ومرافق الطهي النظيفة. تتوقع الوكالة أن العالم سينفق ما معدله 14 مليار دولار سنويا بين عامي 2010 و2030، معظمها على شبكات الربط في المناطق الحضرية. لكن هذا التمويل المتوقع غير كاف، حيث من المتوقع أن يبقى نحو مليار نسمة في العالم من دون كهرباء، 2.7 مليار نسمة بدون مرافق طهي نظيفة بحلول عام 2030، معظم هؤلاء يعيشون في المناطق النائية في البلدان النامية. في هذا الصدد تشير الوكالة إلى أن الاستثمارات السنوية يجب أن ترتفع إلى 48 مليار دولار في المتوسط لتوفير الطاقة الحديثة للجميع بحلول عام 2030، هذا الرقم يمثل فقط 0.075 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي لعام 2010. الإنفاق التراكمي العالمي لمكافحة فقر الطاقة للفترة من 2010 حتى عام 2030 يجب أن يصل إلى ما يقرب من 960 مليار دولار للقضاء على فقر الطاقة حسب وكالة الطاقة، هذا الرقم أكثر من الاستثمارات السنوية الحالية بنحو 640 مليار دولار.
يوجد اليوم ما لا يقل عن 2.7 مليار نسمة، وربما أكثر من ثلاثة مليارات، لا يمكنهم الحصول على أنواع الوقود الحديثة للطهي والتدفئة. إنهم بدلا من ذلك يعتمدون على مصادر ''الكتلة الإحيائية التقليدية''، مثل الحطب، الفحم، والروث ومخلفات المحاصيل الزراعية، التي عند احتراقها في الأماكن المغلقة تنبعث منها ملوثات الهواء الضارة. وفقا لمنظمة الصحة العالمية، هذه الملوثات تتسبب بوفاة ما يقرب من 1.5 مليون شخص سنويا في العالم، ما يقدر بنحو 44 في المائة منهم من الأطفال ونحو 60 في المائة من وفيات البالغين هم من النساء. استخدام ''الكتلة الإحيائية التقليدية'' يسهم أيضا بآثار بيئية سلبية بما في ذلك تدهور حالة الغابات والأراضي، انبعاث الكربون الأسود الذي يسهم في تغير المناخ العالمي.
في البلدان النامية تختلف الكهربة (وصول الكهرباء) بين المناطق الريفية والحضرية اختلافا كبيرا. على سبيل المثال، في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى نسبة كهربة الريف ليست سوى 14 في المائة، مقارنة بـ 60 في المائة في المناطق الحضرية. في الواقع أكثر السكان الذين يفتقرون إلى الكهرباء في العالم هم في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا، حيث تمثل هاتان المنطقتان معا أكثر من 80 في المائة من السكان في العالم الذين يفتقرون إلى الكهرباء. في أمريكا اللاتينية نسبة الكهربة بشكل عام عالية جدا، حيث تتجاوز 92 في المائة، لكن هايتي لا تزال متخلفة في هذا الجانب عن باقي الإقليم، حيث 39 في المائة فقط من سكانها يحصلون على الكهرباء.
أكثر الشعوب التي تعتمد على الكتلة الإحيائية التقليدية للحصول على الطاقة يقطنون المناطق النامية في آسيا، حيث في الهند وحدها أكثر من 830 مليون نسمة يعتمدون عليها ويوجد أيضا 100 مليون نسمة في كل من باكستان بنغلادش وإندونيسيا يستخدمون الكتلة الإحيائية التقليدية. ما مجموعه 54 في المائة من سكان البلدان النامية في آسيا يعتمدون على وقود الكتلة الإحيائية التقليدية. في إفريقيا، العدد يصل إلى نحو 660 مليون نسمة، لكن نسبة السكان أعلى، حيث تصل إلى 65 في المائة من سكان إفريقيا.
مع التقدم العلمي والتقني تطورت مناهج وأساليب جديدة لتزويد المناطق بالكهرباء، هذه الوسائل لا تعتمد على شبكات نقل الطاقة الإقليمية أو الوطنية العالية الكلفة فقط بل على أنواع مختلفة من مصادر الطاقة المتاحة محليا، هذه الوسائل تكفل للعالم الوصول إلى الهدف المعلن في مبادرة ''الطاقة المستدامة للجميع'' المتمثل في ضمان حصول جميع سكان العالم على طاقة عصرية بحلول سنة 2030، في المناطق الريفية، وكذلك في المناطق الحضرية. لغرض الحصول على الكهرباء من المفيد أن يستند حيثما كان ذلك ممكنا من الناحية الاقتصادية والعملية على الطاقة المنخفضة الكربون، لأننا في حاجة للحفاظ على مناخ ملائم للصحة والرفاهة.
في الواقع هناك ثلاثة خيارات عامة متاحة لزيادة فرص حصول المناطق الريفية على الكهرباء: الخيار الأول عن طريق الربط المباشر للمناطق المحلية مع الشبكة المركزية، الخيار الثاني عن طريق تركيب شبكات لامركزية صغيرة، والخيار الثالث عن طريق بناء أنظمة الطاقة خارج الشبكة لتغذية المنازل والمباني والمجمعات الصغيرة بصورة مستقلة. من غير المرجح أن يتم توفير الكهرباء إلى المناطق الريفية النائية من خلال الخيار الأول، لأن العديد من البلدان تفتقر إلى البنية التحتية والتمويل اللازمين للقيام بذلك على نطاق واسع. الخيار الأكثر جدوى هو عن طريق الشبكات اللامركزية الصغيرة التي تربط المناطق الريفية مع محطات توليد مركزية صغيرة تنشأ في أماكن قريبة. لكن في أحيان كثيرة غالبا ما يكون الخيار الواقعي الوحيد هو عن طريق بناء أنظمة الطاقة خارج الشبكة لتغذية المواقع في المناطق الريفية النائية، حيث عدد السكان غير كاف لإنشاء شبكات لامركزية صغيرة أو لا يوجد إمكانات للقيام بذلك.
محطات الطاقة الكهرومائية الصغيرة، منشآت طاقة الرياح الصغيرة، المولدات الغازية والنفطية الصغيرة (لتزويد قرية أو مجموعة سكنية محدودة)، مصابيح الطاقة الشمسية، أو أي مزيج من هذه الأنظمة، تعتبر من الخيارات الفعالة والمجدية اقتصاديا للشبكات اللامركزية الصغيرة أو لأنظمة الطاقة خارج الشبكة.
تحسين مواقد الطبخ يمكن أن يلعب دورا مهما في الحد من فقر الطاقة، وتمكين الناس من الاستفادة من أنواع الوقود الأكثر حداثة أو استخدام الوقود التقليدي بشكل أكثر كفاءة. تحسين مواقد الطبخ يمكن أن يضاعف كفاءة الوقود التقليدي ضعفين أو ثلاثة أضعاف، ويقلل من ملوثات الهواء في الأماكن المغلقة. كما أن تقليل استهلاك الوقود يوفر الوقت والمال، ويتيح للناس من ذوي الدخل المحدود الاستثمار أكثر في أمور حياتية أخرى.