اليونان تدفع الثمن غالياً

تمر اليونان بمرحلة صعبة جداً، حيث تخضع لضغوط شديدة من قبل شركائها في منطقة اليورو، وذلك في إطار التفاوض على برنامج الإقراض الجديد الذي تقدر قيمته بنحو 130 مليار يورو. فقد وضعت شروط مبدئية تتضمن أن يتعهد قادة الأحزاب السياسية الذين سيتنافسون على الانتخابات المقبلة بالالتزام سياسياً بما سيتم التوصل إليه حالياً في إطار برنامج الإقراض الجديد الذي سيمتد إلى عشر سنوات. وقد كان من الصعب جداً على رئيس الوزراء اليوناني الوصول إلى التزام من قادة الأحزاب السياسية بذلك خلال الأسبوع ما قبل الماضي.
الشرط الآخر الذي على اليونان الالتزام به هو أن يقوم البرلمان اليوناني بالتصويت بالموافقة على هذه الشروط، وكانت التوقعات تشير إلى أن ذلك سيكون من الصعوبة بمكان، مما سيشكل تحدياً للاتفاق مع مجموعة الترويكا الممثلة بكل من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. لكن كان من المفاجئ هو موافقة البرلمان بأغلبية كبيرة على ما تم الاتفاق عليه بين الحكومة اليونانية والترويكا من تخفيضات في الأجور وتعديلات على أنظمة التقاعد، إضافة إلى الكثير من الإجراءات والأهداف الاقتصادية الكمية، التي شكلت وستشكل في المستقبل تحدياً للمواطن اليوناني.
عدد من المطالبات الأخرى، كالاتفاق على تخفيضات إضافية تقدر بنحو 400 مليون يورو طالبت بها الترويكا، ليتمكن اليونانيون من التوصل إلى النسبة المستهدفة للدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020، والمقدرة بـ 120 في المائة. وعلى الرغم مما أبداه مسؤولو الحكومة اليونانية من التزام تجاه ذلك، إلا أن ذلك لم يكن كافياً من وجهة نظر دول منطقة اليورو وبالتحديد ألمانيا، لكي يتم إنهاء الاتفاق على حزمة برنامج الإقراض الجديد. المشهد اليوناني يدعو إلى الشفقة على اليونانيين والحكومة اليونانية التي تواجه تحدياً كبيراً لتصحيح أوضاعها الاقتصادية، لكن ليس بشروطها وبفعل إرادة مواطنيها، ولكن من خلال إرادة خارجية يتم فرضها عليها.
ما تشهده اليونان حالياً يعده البعض من قبيل التعجيز وإيجاد المبرر لإخراجها من منطقة اليورو، وذلك على الرغم من محاولة اليونانيين فعل كل ما يمكن لتجنب ذلك. في لقاء مع إحدى الصحف تتساءل امرأة في السبعينات من عمرها، ماذا يريدون منا؟ هذه الأزمة تعدت الحدود الاقتصادية إلى إهانة كرامة اليونانيين؟ وأقول نعم، هذا ما يحدث عندما لا يحسن الناس اختيار الأصلح لهم. الإصلاح لدى البعض هو زيادة المنافع المادية الآنية، دون النظر إلى تأثيراتها على المدى الطويل. هذه المرأة الآن تعاني بسبب أن تقاعدها الذي عملت لأجله كل السنوات الماضية، سيتم تخفيضه بشكل كبير.
لكن هل وقف حد نزيف الكرامة بسبب سوء التدبير إلى هذا الحد؟ لا ، بل تعداه إلى تدخل دول منطقة اليورو في كيفية وشكل الحكومة اليونانية القادمة، حيث يطالب الألمان أخيراً بأن تكون حكومة تكنوقراط وليست حكومة أحزاب، على شاكلة الحكومة الإيطالية الحالية، وذلك لضمان التزام الحكومة اليونانية بالبرنامج الإقراضي. بل إنه تم طرح فكرة أن يكون هناك ممثل ألماني مقيم في اليونان يتابع تنفيذ الميزانية اليونانية، على الرغم من نفي الألمان لهذه الفكرة. الألمان وغيرهم من أعضاء دول منطقة اليورو يبررون ذلك بالطبع بحماية مصالحهم، مصالح ناخبيهم.
هذا الأمر يدعو إلى التأمل في المشهد اليوناني، الذي سيكون درساً يتعلم منه الكثيرون أهمية الإدارة الحصيفة والمتحفظة لشؤون الاقتصاد الكلي، خصوصاً تلك التي تتعلق بترتيب التزامات كبيرة على مالية الدولة، دون وجود عائد اقتصادي واضح لها. التوسع في الإنفاق الجاري، والزيادات غير المبررة للأجور، واستخدام التوظيف العام للتعويض عن عجز القطاع الخاص أو ممانعته في التوظيف، وزيادة المنافع التقاعدية دون مبرر، كل هذه الأمور سيكون لها انعكاسات، ليس على الوضع الاقتصادي فقط، ولكن على الاستقرار واستقلالية القرار السياسي والاقتصادي في الدول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي