النفط بين الادخار والاستثمار والصناعات التحويلية
السعودية، العراق، الكويت، قطر، الإمارات، إيران، ليبيا، الجزائر، إندونيسيا، نيجيريا، فنزويلا، وأنجولا. دول مختلفة تجمعها منظمة الدول المصدرة للنفط ''أوبك'' وتفرقها سياساتها النفطية. تتباين هذه السياسات بين تخصيص القطاعات النفطية، أو تأميمها، أو كليهما معاً. وتتباين كذلك هذه السياسات في حجم ما يتم ادخاره في جوف الأرض، وما ينتج، وما يصدّر. وتتباين تباعاً منهجية إدارة العائدات النفطية لهذه الدول بين استثماره في البنى التحتية التنموية، أو ادخاره في قنوات استثمار محلية ودولية، أو تطويره في صناعات تحويلية تدعم الصادرات التحويلية. تحمل كل سياسة في طياتها مجموعة من الإيجابيات ومثلها من السلبيات. والفيصل في نهاية المطاف هو مدى الانعكاس التنموي لهذه المنهجيات والسياسات النفطية على مكانة هذه الدولة أو تلك في خريطة العالم الاقتصادية بين اقتصادات متقدمة، وشبه متقدمة، ونامية. ليس انعكاسا آنيا فحسب، وإنما انعكاس مستقبلي يمهد الطريق نحو تحقيق تنمية مستدامة لهذه الدولة أو تلك.
صدرت ورقة عمل الشهر الماضي من صندوق النقد الدولي حول انعكاسات السياسات النفطية للدول المصدرة للنفط ومنهجية إدارة عائداته. صدرت ورقة العمل تحت عنوان ''معضلة مصدري النفط بين الادخار والاستثمار''. هدفت الدراسة إلى التعرف على الانعكاسات التنموية للسياسات النفطية ومنهجيات إدارة العوائد النفطية لـ 19 دولة مصدرة للنفط من خلال مقارنة الانعكاسات في مجالات الادخار، والاستثمار، والتصدير لهذه الدول على مدى قرابة أربعة عقود من 1970 إلى 2008. حملت نتائج ورقة العمل في طياتها مجموعة من النتائج الجديرة بالمدارسة. ونظراً للترابط الكبير بين السياسات النفطية ومنهجية إدارة العوائد النفطية والانعكاسات التنموية لكل دولة، فإنه من الأهمية مدارسة إحدى تجارب الدول المصدرة للنفط من هذا المنظور بما يمكننا من المقارنة البينية مع الواقع السعودي ومستقبله التنموي.
من التجارب الجديرة بالمدارسة تجربة الاقتصاد الفنزويلي في إدارة قطاعه النفطي خلال الأربعين عاماً الماضية. السبب في اختيار تجربة الاقتصاد الفنزويلي عوضاً عن غيرها من تجارب دول منظمة ''أوبك'' هو ما تحمله التجربة من فوائد في الانتقال بين سياسات تخصيص القطاع النفطي، وتأميمه، وتوازنه خلال فترة زمنية قصيرة مما يجعل من أمر المقارنة بين الانعكاسات الإيجابية والسلبية على المستقبل التنموي أمراً مفيداً.
شهد الاقتصاد الفنزويلي منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي تطوراً مهما عندما أعلنت الحكومة الفنزويلية تأميم قطاعها النفطي. أسندت بموجب قرار التأميم هذا جميع الأنشطة النفطية من استكشاف، وتنقيب، وتكرير، وتسويق إلى شركة النفط الوطنية الفنزويلية.
تباينت انعكاسات هذا القرار على القطاع النفطي الفنزويلي بين الإيجابيات والسلبيات. إيجابياً على سبيل المثال انتقال جميع الأنشطة النفطية إلى مظلة شركة النفط الوطنية الفنزويلية. أسهم ذلك في زيادة درجة الرقابة على الأنشطة النفطية، ومن ثم تفادي التحديات التنسيقية التي نجمت عن تعدد الأطراف في سلسلة الأنشطة النفطية من الاستكشاف، والتنقيب، والتكرير، والتسويق خلال فترة ما قبل السبعينيات من القرن الماضي.
وسلبياً على سبيل المثال التأخر في عملية اتخاذ القرار الاقتصادي ضمن مظلة شركة النفط الوطنية الفنزويلية. حيث أسهمت ممارسة الدور الرقابي في تنشيط البيروقراطية مما أدت إلى تواضع تجاوب الاقتصاد الفنزويلي مع تطورات الاقتصاد الوطني، والإقليمي، والعالمي.
استمر الوضع على ما هو عليه حتى منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي قبل أن يشهد الاقتصاد الفنزويلي تطوراً مهما عندما أعلنت الحكومة الفنزويلية العدول عن سياسة التأميم والتوجه إلى سياسة التخصيص من خلال تخصيص قطاعها النفطي في برنامج عرف فيما بعد باسم برنامج تخصيص القطاع النفطي الفنزويلي.
هدفت الحكومة الفنزويلية من برنامج التخصيص النفطي الفنزويلي إلى زيادة درجة تأثير الاقتصاد الفنزويلي في تطورات الاقتصاد العالمي من خلال مضاعفة الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط الفنزويلية بشكل تدريجي من 1.7 مليون برميل يومياً عام 1985 إلى سبعة ملايين برميل يومياً عام 2007.
اتخذت الحكومة الفنزويلية قرارها هذا بناءً على ثلاثة دوافع. الأول، تواضع الموارد المالية لشركة النفط الوطنية الفنزويلية مما أسهم بالسلب على قدرتها الاستثمارية وبالتالي التوسع في الأنشطة النفطية. والثاني، تواضع الإمكانات الفنية والمهنية لشركة النفط الوطنية الفنزويلية مما أسهم بالسلب على قدرتها التشغيلية، وبالتالي ارتفاع تكلفتي الإنتاج والتشغيل. والثالث قناعة الحكومة الفنزويلية بأن سياسة التخصيص ستكون كفيلة بتحسين القدرة التشغيلية والاستثمارية وبتحقيق الهدف الرئيس والهادف إلى مضاعفة الطاقة الاستيعابية إلى سبعة ملايين برميل يومياً بحلول عام 2007.
اعتمدت خطة تنفيذ برنامج التخصيص الفنزويلي على عاملين: الأول عامل مادي من خلال السعي إلى استثمار قرابة 73 مليار دولار في القطاع النفطي بحلول عام 2007، والثاني عامل فني من خلال دعوة شركات النفط العالمية لمشاركة القطاع الخاص الفنزويلي في توفير الاستثمار النفطي اللازم.
بدأ تنفيذ البرنامج في بداية التسعينيات الميلادية من القرن الماضي بدخول شركة النفط الوطنية البريطانية القطاع النفطي الفنزويلي بعقد استثماري قارب الـ 60 مليون دولار. توالى بعد هذا العقد الدخول التدريجي لشركات النفط العالمية ككونوكو الأمريكية وتوتال الفرنسية إلى أن وصلت إلى قرابة 40 عقد استثمار نفطي في غضون خمسة أعوام.
بدأت نتائج برنامج التخصيص الفنزويلي تظهر بشكل تدريجي على مستوى الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط الفنزويلية عندما زاد الإنتاج من 2.6 مليون برميل يومياً عام 1991 إلى 3.5 مليون برميل يومياً عام 1997. كما بلغت مساهمة الاستثمار في البنى التحتية التنموية في الناتج المحلي الإجمالي قرابة 25 في المائة. قابل معدل المساهمة هذه مساهمة قاربت الـ 32 من الناتج المحلي الإجمالي عبارة عن ادخاره في قنوات استثمارية محلية ودولية. تزامنت هذه المعدلات مع تسجيل معدل نمو صادرات الصناعات التحويلية لقرابة 23 في المائة.
تقودنا هذه النتائج إلى النظر في واقع السياسة النفطية السعودية من واقع نتائج ورقة العمل أعلاه؛ حيث أشارت النتائج إلى أن السياسة النفطية السعودية أسهمت في أن تسجّل مساهمة الاستثمار في البنى التحتية التنموية في الناتج المحلي الإجمالي قرابة 22 في المائة. قابل ذلك مساهمة أخرى قاربت الـ 39 من الناتج المحلي الإجمالي عبارة عن ادخاره في قنوات استثمارية محلية ودولية. تزامنت هذه المعدلات مع تسجيل معدل نمو صادرات الصناعات التحويلية لقرابة 33 في المائة. نخلص من ذلك إلى أنه كلما حققت صادرات الصناعات التحويلية نمواً كبيراً فإنه من الأهمية بمكان أن يتزامن هذا الإنجاز مع نمو في الادخار في القنوات الاستثمارية على حساب الاستثمار في البنى التحتية التنموية، والعكس صحيح.