على طريق بناء النموذج الاقتصادي الخليجي! (2 من 3)
في مقالات سابقة تحدثنا عن بناء النموذج الاقتصادي السعودي، ولكن الكلام عن النموذج الاقتصادي السعودي يكون ناقصا إذا لم نتحدث عن بناء النموذج الاقتصادي الخليجي.
دعونا نسلم بأنه لا يمكننا أن نبني نموذجا اقتصاديا سعوديا بعيدا عن العمل الاقتصادي الخليجي المشترك، لأننا نرتبط رسميا بمشروع السوق الخليجية المشتركة، ولا ننسى أن مليكنا المفدى طالب القادة الخليجيين بالشروع في تنفيذ مشروع الاتحاد الخليجي الفيدرالي بعد أن تحقق التعاون الخليجي المشترك، ولذلك يجدر أن نشرع في بناء نموذج اقتصادي خليجي وليس سعوديا فحسب.
ولعله من الجميل أنه لا توجد خلافات أيديولوجية بين النخب الاقتصادية الخليجية، ولكن المشكلة الكأداء التي تعانيها الاقتصادات الخليجية هي قصور واضح وفاضح في الموارد البشرية سواء في العدد أو المهارات، وهذا التكدس البشري الهائل الذي يتدفق من القارة الهندية إلى دول الخليج خير دليل على أن الموارد البشرية في دول الخليج تحتاج إلى إعادة صياغة شاملة. ولذلك نستطيع القول إن النموذج الاقتصادي المناسب للاقتصادات الخليجية يجب أن يرتكز على إجراء إصلاحات واسعة وشاسعة في الموارد البشرية الخليجية.
وتتمثل عمليات تنمية رأس المال البشري في التعليم والتدريب وتصميم هياكل مغرية للأجور وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية للعاملين والعاملات.
أما العنصر الأهم في قضية تنمية الموارد البشرية في منطقة الخليج فهو الرهان على حضور إيجابي واسع الأرجاء للعنصر النسائي في أسواق العمل الخليجية، وفي الوقت نفسه الإحلال التدريجي للعمالة الخليجية محل العمالة الوافدة على أساس مبدأ الكفاءة والجدارة.
ويجب أن نتذكر أن الدول الناشئة لم تكن ناشئة لولا اعتمادها على تنمية الموارد البشرية المدربة، بدليل أن كل الدول الناشئة لم تكن دولا نفطية، بل كانت وما زالت دولا تملك مهارات عالية في الموارد البشرية، ونحن نحمد الله لأننا من الجزيرة العربية المنطقة التي يشهد لها التاريخ بأن كوادرها البشرية هي التي حملت ألوية الحضارة الإسلامية وجابت بها كل أرجاء الدنيا مبشرة بحضارة أغدقت الخير للإنسانية جمعاء.
هذه المقدمة هي بمثابة روشتة أساسية لعلاج أسقام الاقتصادات الخليجية، ولكن تنمية الموارد البشرية في منطقة الخليج تقتضي أن نراجع الاستراتيجية السكانية الموحدة لدول المجلس خصوصا أن هذه الاستراتيجية تستهدف تهيئة اقتصادات دول المجلس للتكيف مع طموحات الاقتصاد الدولي.
ولعله من الجميل أن جميع دول مجلس التعاون تتمتع بمعدلات خصوبة وولادة مرتفعة في الوقت الذي تستمر فيه معدلات الوفيات بين الأطفال في التراجع، ولقد أدى ذلك إلى زيادة ملموسة في نسب نمو السكان التي تعتمد على بنية سكانية فتية، إذ تشكل الفئة التي تقل أعمارها عن 15 ما يزيد على 43 في المائة من إجمالي عدد السكان، بمعنى إذا حافظت دول الخليج العربية على معدل نمو سكاني يبلغ نحو 3.6 في المائة سنويا فإن عدد السكان سيتضاعف في أقل من 20 عاما، ونحن نحتاج إلى هذا الضعف وليس العكس، ولكن الزيادة التي نرجوها يجب أن تقترن بالمهارة وإلاّ فإن الزيادة دون مهارة ستصبح عبئا على التنمية وليست عونا للتنمية.
وإذا أدركنا أن القوى العاملة الوطنية لا تمثل حاليا سوى نسبة تراوح بين 15 في المائة و25 في المائة من إجمالي قوة العمل، فإننا ندرك أن إمكانات دول مجلس التعاون الخليجي على خلق فرص العمل الجديدة للعمالة الوطنية تبدو متوافرة، حيث إن هناك حاجة إلى خلق فرص عمل لنحو مليوني شخص في دول الخليج وذلك خلال السنوات العشر المقبلة.
ويبدو أن المملكة حريصة ــــ في هذه الأيام ــــ على تحقيق تنمية واسعة في الموارد البشرية هدفها تخريج الكوادر السعودية القادرة على المساهمة بفاعلية في عمارة هذا الكون، ولقد سرني جدا الدكتور عبد الله الموسى وكيل وزارة التعليم العالي، حينما صرح لـ ''الاقتصادية'' 29 كانون الثاني (يناير) 2012 بقوله إن هدف الوزارة من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي هو أنه بحلول عام 2020 (بعد مرحلته العاشرة) يتم تخريج 50 ألف مبتعث سعودي من أفضل 500 جامعة في العالم، ويكون أمام هذا الحشد السعودي المتعلم فرص وافرة للمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية.
ووفقا لظروف سوق العمل الخليجي فإن المأمول أن يلعب القطاع الخاص دورا رئيسا في استيعاب الكم الهائل من الوظائف المتاحة، وبالذات في حقل المهن الفنية وليس الأعمال المكتبية، لأن التركيز يجري حاليا على تطوير دور القطاعات الإنتاجية والصناعية والأعمال المرتبطة بالمهارات الفنية والتكنولوجية، يضاف إلى ذلك أن ظروف العمل خلال السنوات المقبلة ستكون أكثر تشددا سواء من حيث الامتيازات الوظيفية المتوافرة أو معدلات الإنتاجية المطلوبة والمرغوبة، كما أن الحكومات الخليجية ستتخلى عن دورها كملاذ مسؤول يتيح الوظيفة لكل من يطلبها بصرف النظر عن المهارة والإنتاجية.
ويجب أن يجول في بالنا أن دول مجلس التعاون ستواجه العديد من التحديات من أجل تنمية مواردها البشرية واستخدامها الاستخدام الأمثل، وعلى الرغم من أن كبار المسؤولين في مختلف دول المجلس أكدوا على ضرورة إعطاء الأولوية للمواطن الخليجي فإن عملية توطين الوظائف ظلت مقصورة في غالب الأحيان على القطاع العام دون أن تنتقل بشكل فاعل إلى القطاع الخاص.
وفي هذا الإطار فالخليجيون يحتاجون إلى تصميم نموذج اقتصادي يعبر عن هوية الاقتصاد الخليجي ويكون بمثابة المنهج في تنفيذ السياسات الاقتصادية الخليجية.
إن التدريب والتعليم وجميع ما يتصل به من مؤسسات وبرامج وفعاليات يبقى ركنا أساسيا وثابتا في منظومة تنمية الموارد البشرية مع التوجه نحو استخدام التكنولوجيا على نطاق واسع.
كما أن خطط التدريب والتعليم يجب أن تتضمن غرس القيم المتصلة بالجاهزية والانضباط بما يتمشى مع الأنماط الثقافية السائدة في أسواق العمل في الدول المتقدمة. ولذلك فإننا مطالبون بإدخال تعديلات جوهرية على أنظمة التدريب والتعليم التي ظل دورها محدودا في تجهيز السعوديين والخليجيين لسوق العمل، كذلك تبرز الحاجة إلى وضع برامج توعوية تبرز أهمية العمل وقدسيته خصوصا الأعمال الفنية والحرفية التي لا تزال أعداد كبيرة من الخليجيين يعزفون عنها، ويستنكفون القيام بها.
إن وضع الخطط اللازمة لتحقيق تنمية حقيقية في الموارد البشرية في منطقة الخليج هو المدخل العلمي للتعامل مع مشروع النهضة النمورية.
إن بناء ثقافة تقدير المهارات الفنية أمر بالغ الأهمية ونحن على طريق بناء النموذج الاقتصادي، لأن تطوير الاقتصاد الخليجي يحتاج إلى مهارات من أجل توفير بنية الإبداع والابتكار، كما أن تحسين ظروف العمل والأجور ومزايا الضمان الاجتماعي في منطقة الخليج سيساعد بصورة كبيرة على جذب الأيدي العاملة الوطنية للعمل.
إن الموهبة في القرن 21 ستكون هي الثروة الحقيقية، وإن الابتكار ليس خيارا، وإنما هو وسيلة الإدارة لتطوير الأعمال، وإن الاستمرار في هذا السبيل يقود إلى بناء نموذج اقتصادي خليجي نحن أحوج ما نكون إليه الآن أكثر من أي وقت مضى.