لماذا لم نستطع ترجمة الميزانية إلى نمو اقتصادي؟
أرقام الميزانية حقائق محاسبية ذات مدلولات مالية، ولكنها تخفي حقائق اقتصادية، هذه الأرقام التي يسمعها المواطن والمستثمر وكل مَن لديه مصلحة مباشرة وغير مباشرة مؤثرة ومطمئنة، ولكنها لا تنعكس على أداء الاقتصاد (وضعية أو حركية) بما يتناسب مع هذا الحجم من المصروفات. فعلى الرغم من أن كل ميزانية في السنوات العشر الأخيرة قياسية إلا أن النمو الاقتصادي الفعلي يقارب الصفر على مدى السنوات الأربع الأخيرة، حيث كان 0.7 في المائة في عام 2011. السؤال الرئيس: لماذا هذا النشاز على الرغم من ارتفاع المصروفات وتوجه حكومي معنويا وماليا للمزيد من الرفاه للمواطن؟
دعنا نقل في البداية أن المسألة ليست حالة نفسية تعبر عنها بالتفاؤل أو التشاؤم، ولذلك يجب أن تكون النظرة عقلانية في المقام الأول. إيجابيا أعلن بيان وزارة المالية أن القطاع الصناعي سجّل نمواً بنسبة 15 في المائة، ولكن هذا لا يكفي، حيث إن القطاع الصناعي صغير في الأساس. في الجوهر هناك أسباب هيكلية لهذا الخلل. السبب الأول هو أن النموذج الاقتصادي رفاهي، وهو بالتالي استهلاكي وليس إنتاجيا، ولذلك فإن الأموال المصروفة سرعان ما تجد طريقها إلى الخارج، يعبر عن هذا ما يسميه الاقتصاديون سرعة دوران النقود، وهذه تنخفض كلما قل عمق الاقتصاد (في الاقتصاد الاستهلاكي المبني على الاستيراد يذهب المال من المستهلك لوكيل السيارات وهذا بدوره يدفعها إلى المصنع الخارجي، بينما في اليابان مثلا هناك شبكة من المستفيدين في الوسط تجعل النقود تدور في النظام المالي). السبب الثاني هو طبيعة الاقتصاد الحكومي، فأغلب الناس يعمل في وظائف حكومية ذات مردود إنتاجي ضئيل، وهذا انعكس بدوره على القطاع الخاص الذي أصبح مستفيداً، إن لم يكن مستغلا، وتزداد هذه الاستفادة كلما ازدادت مصروفات الحكومة. فكل ريال تصرفه الحكومة يجد ما بين 85 و90 في المائة منه طريقه إلى الخارج وهذه الحالة مستمرة منذ أن بدأت الطفرة الأولى في السبعينيات. ولذلك فإن المشكلة هيكلية مما يجعل التحفيز المالي نفعياً ووقتياً لأغلب الناس ولن يتغير شيء ما لم نفكر في تغيير النموذج الاقتصادي، كما أشارت كلمة "الاقتصادية" مرات عدة.
القدرة على تغيير النموذج صعبة لأنه في نقطة تقاطع ما بين تحول سيسو اجتماعي يستطيع بعث روح جديدة ورؤية معمقة مع قدرات إدارية وفنية تنموية ذات منطق اقتصادي. لعل التحدي في القدرة على تجنيد المعنوي والمادي في تزامن ونغم واحد لتحقيق أهداف محدّدة، وهذا لم نستطع عمله في العقود الثلاثة الماضية.
طبعاً هناك تعقيدات وجوانب أخرى لوصف الحالة السعودية، منها الاعتماد على الأيدي غير الوطنية في القطاع الخاص وسياسة الدعم غير المنظم واستبعاد الأخذ بالضرائب كآلية لتوجيه الدفة الاقتصادية. استفحال وتداخل هذه الجوانب يتطلب إعادة التفكير في النموذج الذي أصبح ضرره أكثر من نفعه عدا أنه لا يتناسب مع العصر وفي معزل عملي بين المال (المصروفات الحكومية) والحركة الاقتصادية الفعلية الإيجابية. ولذلك فإن السؤال أصبح مشروعاً، لماذا الميزانية في تزايد والنمو الاقتصادي الحقيقي محدود جدا؟ تغير النموذج يتطلب نظرة جديدة للأراضي ومراجعة للدعم بما في ذلك سياسة طاقة واضحة والتعامل مع توطين الوظائف بما يتماشى مع توجه إنتاجي. الواضح أن الأجهزة الاقتصادية المسؤولة ما زالت تفضل العمل على الجزئيات والهوامش تحت تبريرات عدة.