مصداقية تقارير وكالة الطاقة الدولية
تكونت وكالة الطاقة الدولية في منتصف السبعينيات الميلادية كرد فعل لبروز دور منظمة الدول المصدرة للنفط ''أوبك''، وتزامناً مع أول ارتفاع كبير لأسعار النفط، بعد حرب 1973 بين العرب وإسرائيل. وكان للدور الكبير الذي لعبه هنري كسنجر، وزير خارجية أمريكا آنذاك، الفضل الأول في فكرة إنشاء الوكالة الدولية، تحت مظلة مجموعة من الدول الأوروبية وأمريكا بطبيعة الحال. وكان المطلوب من وكالة الطاقة الدولية في الدرجة الأولى هو مراقبة تغيُّر الأسعار النفطية والتنبؤ بذبذباتها وديناميكية الإمدادات التي تضمن استقرار السوق النفطية، وما يتطلب لذلك من دراسات وبحوث اقتصادية واستراتيجية. وإذا لم نحسن الظن بها، فمن الممكن أن ندعي أنها وجدت من أجل محاربة سياسات منظمة الأوبك وتقطع عليها طريق السيطرة والتحكم في اقتصاديات النفط. وكان من الطبيعي أن تكون مهمة الوكالة خلال العقدين الأولين من عمرها سهلة ولا تتطلب كثيراً من الجهد، وذلك لسبب بسيط وهو توافر الإمدادات النفطية بكميات تزيد كثيراً عن حاجة المستهلكين، وهو ما كفى الوكالة ''شر القتال''. فقد لعب دور المتنافسين من المنتجين، داخل منظمة الأوبك وخارجها، دوراً جوهريا في كبح جماح الأسعار، مما أدى في كثير من الأحيان إلى إغراق السوق بفائض من النفط الذي كانت أسعاره مُتدنية. وعلى الرغم من أن ذلك الوضع الذي استمر لعدة عقود قد أضر كثيراً بمستقبل اقتصاد معظم الدول المنتجة، إلا أنه كان سبباً رئيسا في إنعاش ونمو الاقتصاد العالمي وأسهم في زيادة رفاهية الشعوب في البلدان المتقدمة.
وكانت وكالة الطاقة الدولية خلال سنوات الرخاء النفطي تُقدم دراساتها وتنبؤاتها حسب رؤيتها للوضع الحاضر والقادم، دون أن يكون لذلك تأثير يُذكر على سياسات واستراتيجيات الدول التي ترعاها، لأن الأمور بوجه عام كانت سائرة على الوجه المُرضي دون عناء من أي جهة كانت. ولكن هذا لا يعني أن الأسعار كانت ثابتة خلال عمر وكالة الطاقة، فقد حصل مع وفرة المعروض بعض التذبذبات التي كان سببها انقطاعا مؤقتا من أحد المنتجين لأسباب سياسية، كما حدث عند ما قامت الثورة الخمينية في إيران في أواخر عام 1979. ولكنها كانت أزمات سرعان ما تزول قبل أن تترك أي آثار سلبية على الاقتصاد العالمي، بفضل وجود فوائض الإنتاج في أكثر من دولة. وفي بداية القرن الـ 21، في عام 2000، بدأت تظهر بوادر شكوك حول قدرة الدول المُصدرة على الاستمرار في رفع كمية الإنتاج مقابل الطلب المتزايد على مصادر الطاقة. وبدأت سلسلة من خروج بعض الدول التي كانت مُصدرة وتحولت إلى مستوردة وانضمت إلى قائمة المستهلكين، مما زاد من العبء على المنتجين الآخرين. في ذلك الأثناء، ظهرت أهمية الدراسات والبحوث التي كانت تعمل على توفيرها وكالة الطاقة الدولية للدول التي تتبناها، فيما يخص مستقبل الإمدادات النفطية ومدى توافرها والتنبؤ بمستقبل الأسعار من أجل أن تكون تلك الدول على علم بما يجري، حتى لا تتعرض لمفاجآت غير محمودة العواقب بسبب نقص المعروض.
ولكن الذي يستعرض التقارير السنوية التي كانت تُصدرها الوكالة، يجد فيها الكثير من عدم الدقة، مما يُفقدها جوهرها. فيلاحظ المرء أن جميع دراساتها وتنبؤاتها حول ما تبقى من احتياطيات النفط التقليدي كانت مبنية على معلومات وأرقام يغلب عليها عدم الشفافية، وقابلة لاحتمالات التضخيم بنسب عالية. وعند ما تُحلل وكالة الطاقة مستقبل الطلب على النفط خلال العقود القادمة تفترض أن نسبة كبيرة من زيادة الإنتاج المطلوب ستأتي من احتياطيات منظمة الأوبك، بناء على قبولها لأرقام غير دقيقة. وكان عليها كمؤسسة بحثية أن تتأكد من صحة المعلومات بأي طريقة كانت حتى تحافظ على مصداقية دراساتها. ومن جانب آخر، فهي تفترض، دون دليل، أن تلك الدول التي لا يملك بعضها إلا النفط لديها الاستعداد لسحب أكبر كمية ممكنة من مخزونها النفطي، متناسية أن المصالح الوطنية ربما تتغلب على رغبة المستهلكين. وكان من الواضح أن وكالة الطاقة الدولية خلال عمرها الطويل لا تخلو من وقوع ضغوط سياسية عليها من قِبل الدول المؤسِّسة، وعلى الأخص الولايات المتحدة، تُؤثِّر في محتوى تقاريرها لتتناسب مع المصالح الخاصة لتلك الدول على حساب المصداقية التي من المفروض أنها تتحلى بها. حتى أن البعض كان يُشكك في مقصد تكوين الوكالة، وأنها ربما وُجِدت لتبث في تقاريرها معلومات وهمية من أجل أن توهم المنتجين بأنه من مصلحتهم رفع كمية الإنتاج في جميع الأحوال. وكانت الوكالة دائماً تستبعد وصول إنتاج النفط التقليدي الذروة، وهو المستوى الذي يبدأ بعده الإنتاج العالمي في الانخفاض. إلا أنها في منتصف العقد الماضي ضمنت تقاريرها معلومة تشير فيها إلى وصول الذروة، وهو ربما يكون دليلاً على انتفاء الضغوط السياسية التقليدية عليها وأن دراساتها وتقاريرها السنوية ستكتسب قليلاً من الثقة التي كانت مفقودة في دراساتها السابقة. ولكن تبقى قضية التثبت من صحة الاحتياطيات النفطية القابلة للإنتاج مُعلقة حتى تتمكن وكالة الطاقة، إن استطاعت، من إزاحة عدم الشفافية والحصول على معلومات موثقة.
ومن المنتظر الآن، وبعد أن وصلت الوكالة إلى مرحلة متقدمة من الإحساس بالمسؤولية وخف عنها عبء التدخلات السياسية، أن تستعيد دورها في إبداء المشورة الموضوعية للدول المعنية فيما يخص مستقبل إمدادات الطاقة. ولعل الاهتمام بتشجيع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة يكون من أولوياتها، لمصلحة البشرية جمعاء.