رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


حتى لا نسير في درب الإغريق

التوازن بين السعي إلى تلبية متطلبات الشارع الاقتصادية، وبين منطقية هذه المتطلبات وعدم تأثيرها على استدامة النمو والاستقرار الاقتصادي أمر مهم، ليس لمصلحة الدولة فقط، بل لمصلحة الفرد، سواءً على المدى القصير أو المدى البعيد. في الدولة المتقدمة سياسياً واقتصادياً، تكون عملية استغلال حاجات الناس وتطلعاتهم أقل وأكثر تأثيراً على الفرد من الدول النامية، بسبب وجود مزيج من ثقافة المؤسسات والشفافية التي تمكن الفرد من الموازنة بين الخيارات المختلفة.
لكن في الدول التي تقل فيها ثقافة الفرد، ويقل تأثيره السياسي والثقافي، تجد أن السياسيين وأصحاب المصالح يستخدمون الشعارات التي تضرب على وتر حاجات الناس لتعبئة الشارع، لا لتحقيق مصلحة اقتصادية عامة على المدى الطويل، ولكن لتحقيق نصر سياسي شخصي يحقق لصاحبه هدف الوصول إلى السلطة. وعندما يعتلي السلطة، تجده يفشل بما وعد الناس بتحقيقه على الجانب الاقتصادي، وتجده يتحول جذرياً إلى استخدام شعارات تعبوية أخرى، كالشعارات الاجتماعية، وحماية الأقليات، وحقوق الإنسان.
الدول المتقدمة سياسياً تتقدم اقتصادياً، والعكس صحيح، فهناك تلازم بين الجانبين، جانب الاستقرار الاقتصادي والاستقرار السياسي. السياسة تهيئ للاقتصاد المبادئ اللازمة لوضع سياسة اقتصادية تلائم الوضع الاقتصادي للدولة، ولا تنظر إلى ما تحت الأقدام فقط، ولكنها تنظر إلى ما هو أبعد من ذلك. وفي مقابل ذلك يقدم الاقتصاد بمختلف جوانبه المالية والاجتماعية، المؤشرات اللازمة لتقييم أداء السياسيين. معادلة قد تبدو بسيطة، لكن الصورة قد تبدو أبشع مما تكون عندما يتم وضعها موضع التنفيذ.
أوروبا التي عملت أكثر من خمسين عاماً على بناء المؤسسات الأوروبية، وقدمت مثالاً يحتذى به في بناء التكامل الاقتصادي بين دول مختلفة عرقياً وثقافياً، تعاني اليوم من مشكلة التفاعل بين السياسي والاقتصادي. السياسي يحاول تحريك الاقتصاد ليخدم أهدافه ومتطلبات ناخبيه. في المقابل قد لا تساعد ظروف الاقتصاد ومتغيراته في تحقيق رغبات السياسي وأهدافه الانتخابية. اليونان واجهت هذا الأمر، وأصبحت أكثر الأمثلة وضوحاً على نتائج الجري وراء الشارع، لا بناءً على مبادئ الحرية والعدالة والمشاركة، ولكن بناءً على أهداف الوصول إلى السلطة.
هذه مشكلة ومعضلة الديمقراطية الحقيقية، أنه عندما تواجه بشعب لا يعرف ما يريد أو ما فيه مصلحة له، فإن الخيار العام ستكون له نتائج مأساوية على الدولة ككل. الشعب اليوناني اختار أن يعمل لساعات أقل، وأن يحصل على رواتب أعلى، وأن يفضل الوظيفة الحكومية، وأن يستدين أكثر، والنتيجة ما نراه الآن. اختار اليوناني العامل في الحكومة أن يتقاعد على سن 55، بينما جاره الألماني الذي يقرضه الملايين لتحقيق هذا الهدف اختار أن يتقاعد على سن 67، ليعمل أكثر وينتج أكثر. اعتقد اليوناني خلال أعوام بسيطة أنه أصبح في نادي الأغنياء، فارتضى أن يقترض أكثر ليشتري البضائع الألمانية والفرنسية، والنتيجة دين يتجاوز ضعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
ولنستعرض النتائج لنتعلم من الدرس، سيادة اليونان كدولة أصبحت في الحضيض، فالأوروبيون ولمدة طويلة وهم يفاوضون اليونانيين على كل ما يتعلق بالسياسة الداخلية لهم، الأجور، الإعانات، الحوكمة، الضرائب، النفقات العامة، أنظمة المنافسة، كل شيء بلا استثناء. اليونان أصبحت مثلاً للدولة غير المسؤولة مالياً أمام المجتمع الدولي، لأنها قدمت بيانات مغلوطة عنه أوضاعها المالية، فقط لتحقيق مكاسب سياسية بحتة. والمقرضون لليونان وغيرها، يريدون التأكد من استرجاع أموالهم، لذلك هم يفرضون عليهم شروطاً أكثر. حتى بلغ الحد بألمانيا بطلب وضع موازنة اليونان تحت تصرف المؤسسات الأوروبية.
هذه النتيجة لم تدفع ثمنها اليونان بالطبع، ولكن أكثر من 20 مليونا من الأوروبيين، الذين خسروا وظائفهم بسبب الوضع المتردي في منطقة اليورو، والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا، كلها تتفاوض مع الدول المقرضة في كل ما يتعلق بإدارة أوضاعها وسياساتها المالية. إذا كان من درس نتعلمه من ذلك، أنه قد يكون من المغري كثيراً الإنفاق والاستمتاع خلال سنوات الرخاء، ولكن يجب ألا ننسى أنه لا يوجد ثمن يعادل ثمن الاستقلال والاستقرار السياسي والمالي للدولة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي