الاحتكار والرسوم لا يلتقيان: التفكير خارج الصندوق مرة أخرى
''الحكم على الشيء جزء من تصوره'' قاعدة فقهية مهمة في اتخاذ حكم معين على المعاملات الدنيوية. والاحتكار موضوع تحرمه كل الأديان والتشريعات، إلا ما كان يخدم المصلحة العامة. وتعريف الاحتكار هو قدرة شركة واحدة أو شخص أو كيان ما على التحكم الكامل في إنتاج سلعة أو خدمة معينة وتحديد السعر الذي يريده المحتكر لتعظيم الأرباح. وهذا هو الاحتكار الكامل. وهناك شبه الكامل والذي يعني تحكم شركتين أو كيانين في إنتاج وتسعير سلعة أو خدمة ما. وهناك احتكار الأقلية والذي يعني أن مجموعة قليلة من الشركات أو الكيانات لها القدرة على التحكم في سلعة أو خدمة معينة. والاحتكار في كل صيغة محارب وغير مرغوب فيه من قبل الحكومات والشعوب، لأنه ينطوي على تعظيم الأرباح والاستغلال للموارد لفئة معينة على حساب المجتمع. والمحتكر بطبعه يستهدف أرباحا معينة بزيادة الأسعار أو زيادة الإنتاج أو بكليهما معاً في سبيل تحقيق أرباحه وتعظيمها. ولذلك، فإن فرض أي رسوم على المحتكر يعني زيادة الأسعار أو الإنتاج أو عمل توليفة معينة من كليهما لتحقيق وتعظيم الأرباح المستهدفة، لذا فإن المحتكر يمرر أي زيادة في الرسوم إلى المستهلك النهائي. بل إن المحتكر يستطيع تلقائيا تمرير أية عوائق تواجهه في الإنتاج، كنضوب أحد الموارد أو ارتفاع أسعاره لأي سبب، إلى المستهلك النهائي. وبالتالي فإن فرض رسوم أو حدوث خلل في عملية الإنتاج ينتهيان بمعاقبة المستهلك النهائي وليس المحتكر لأن لديه القدرة على التحكم في الإنتاج والأسعار، وإلا لما سمي محتكراً.
وعطفاً على ذلك، فإن من يرون أن فرض رسوم على الأراضي غير المطورة سيؤدي إلى خفضها بنسب كبيرة يناقضون استخدامهم للمصطلحين (الاحتكار والرسوم لخفض الأسعار)، مما يضعف من حجتهم بشكل كبير. لذا فإن تعريف الاحتكار في القطاع العقاري يجب أن يكون بشكل مختلف، وذلك بتحديد المصطلح أولاً، ومن ثم إسقاط السياسات المرغوبة لحل المشكلة. إنني ومن خلال قراءاتي أستشف أن من يدعون وجود احتكار في الأراضي يقصدون المنح الكبيرة التي عن طريقها يتملك شخص واحد أو أكثر من شخص مساحة شاسعة من الأراضي غير المطورة بهدف الانتفاع بها في وقت لاحق. وإذا كان ذلك هو المراد، فإن وضع شروط معينة لاستخدامات المنح سيعجل من استخداماتها ويجعلها متاحة للمستهلك النهائي في وقت زمني يحدده المانح مسبقاً أو يتم سحبها. وبهذه الطريقة فإن السيطرة التامة هي بيد المانح لتحقيق أهداف التنمية. وحيث إن إعطاء المنح هو إجراء تمت مزاولته على نطاق واسع في الماضي، فإن من الأفضل منع إعطاء أي منحة كانت، إلا إذا كانت من أجل تطوير مشروع محدد (سكني، صناعي، زراعي)، حيث تؤدي العملية إلى خدمة المجتمع ككل بأسعار معقولة.
وإذا كان الادعاء أن هناك أراضي غير مطورة داخل المدن وأنه يجب استغلالها أو إعادتها للدولة، فإن هذا أمر يمكن قبوله إذا كانت تلك الأراضي ما زالت مملوكة للشخص الممنوح له، ولم يتم التصرف فيها ببيعها أو خلافه. أما الادعاء أن فرض رسوم عليها سيؤدي إلى خفض أسعارها، فهو ما يتناقض مع تحديدنا لمصطلح الاحتكار بعاليه. حيث إننا في هذه الحالة نعتبر المالك محتكراً لأرض غير مطورة داخل النطاق العمراني والسكني، وبالتالي فإن قدرته على بيعها بأسعار مقاربة لسعر السوق أو أعلى هي أمر يمكن حدوثه خصوصا أن الاحتكار في هذه الحالة يعني غياب أراض مماثلة في الموقع نفسه أو قريبة منه، حيث يختفي البديل المثالي له.
وعلى ضوء ما تقدم، فإن القول إن هناك احتكارا في القطاع العقاري يبدو أمرا يصعب تحديده وتعريفه بشكل يمكن قبوله، إلا أنه يمكن القول إن هناك أنظمة وتشريعات عقيمة أدت إلى وجود مثل هذه الظواهر في القطاع العقاري. بمعنى أن إجراءات المنح في وقت مضى كانت أحد الأسباب في ارتفاع أسعار الأراضي، وزاد منها أن الأنظمة والتشريعات الأخيرة أسهمت في خنق القطاع العقاري بشكل أكبر. ومن ذلك منع المساهمات الفردية ـــ بسبب حدوث أخطاء جسيمة في الماضي ما زالت آثارها قائمة حتى الآن فيما يسمى بالمساهمات المتعثرة. فبدلاً من تنظيم المساهمات العقارية بمزيد من الأنظمة والتشريعات تم إلغاؤها، وإنشاء الصناديق الاستثمارية بديلاً عنها، مما رفع تكاليف التطوير، وبالتالي زيادة أسعار الأراضي. كما أن الأمانات كانت تشجع على تطوير المخططات على شكل قطع كبيرة، مع اقتطاع نسب تصل إلى بين 30 و50 في المائة للمرافق والخدمات العامة مع تحمل المطور تكاليف البنية الأساسية. وهذه الأنظمة والتشريعات ما زالت قائمة في القطاع العقاري مما سبب جموداً واضحاً في القطاع كان عاملاً مهماً في ارتفاع الأسعار. إن جمود الأنظمة والتشريعات في هذه الحالة قد يؤدي إلى جمود القطاع العقاري وصعوبة تحريكه حتى يبدو للبعض وكأنه احتكار.