نموذج «معادل الضريبة» للإنفاق العام

الزيادة الكبيرة في موارد الدولة، خصوصاً تلك الناتجة عن ارتفاع عوائد النفط، تزيد النهم والرغبة في زيادة الإنفاق العام بمختلف أشكاله، وذلك على افتراض أن هذا الإنفاق سيؤدي إلى إشباع الحاجات الأساسية للمواطن. هذا الأمر يترتب عليه زيادة الاعتماد على الدولة كمقدم للخدمات العامة، على الرغم من قدرة القطاع الخاص على الاضطلاع بتقديم هذه الخدمات بشكل أكثر كفاءة، إذا ما توافرت له البيئة التنظيمية والتشريعية الملائمة. ما يغفل عنه الكثير من الناس، أن زيادة الاعتماد على الدولة وعلى القطاع العام بالتحديد في تقديم الخدمات العامة وما يترتب على ذلك من الزيادة المطردة في الإنفاق العام، لا تأتي دون تكلفة مباشرة أو غير مباشرة يتحملها الجيل الحالي، أو يتم تحميلها على الأجيال المقبلة.
الفرد أو الحكومة يواجهان بخيارين رئيسين، إما الاستهلاك وإما الادخار. وهذان الخياران لهما بعد زمني مهم يحدد مسارهما في المستقبل، فزيادة الإنفاق الحالي (تخفيض الادخار) ستؤدي بلا شك إلى تقليل فرص الإنفاق في المستقبل. وبالنسبة للحكومة، فإن الزيادة في الإنفاق العام تأخذ شكلين أساسيين، الأول زيادة في الإنفاق الجاري أو زيادة في الإنفاق الاستثماري. الأول يؤدي إلى تلبية حاجات الإنفاق الحالي، كالأجور وغيرها، بينما الإنفاق الاستثماري يستهدف تعزيز البنى التحتية للاقتصاد، والتي قد تؤدي إلى زيادة إمكانيات الإنتاج في المستقبل. أعباء هذا الإنفاق لا تتضح كثيراً في اقتصاد ريعي يعتمد بما نسبته 93 في المائة على إيرادات النفط في تمويل هذا الإنفاق، بينما تكون هذه الأعباء أكثر وضوحاً في اقتصاد يعتمد بشكل رئيس على ضريبة الدخل كأحد المصادر الرئيسة لتمويل الإنفاق العام، كما في أغلب الدول المتقدمة.
الاعتماد الكبير على النفط كأحد المصادر الرئيسة لتمويل الإنفاق العام نعمة تستحق الشكر، لكنه أيضاً لا يخلو من سلبية رئيسة، تتمثل في زيادة الإنفاق العام غير الكفؤ، بمختلف أشكاله، وبما لا يعكس الحاجات الاقتصادية الحقيقية. فهو يؤدي إلى ألا يكون لكثير من المشاريع الكبرى جدوى اقتصادية تبررها وعائد اجتماعي واضح، كما أن التخصيص للموارد لا يكون انعكاساً لمعايير الطلب والعرض والأسعار، إضافة إلى أن الأجور لا تعكس الإنتاجية الحقيقية للأفراد. وبشكل عام يكون هناك انفصال بين حجم الإنفاق العام، وبين العوائد الاقتصادية والاجتماعية منه. الإنفاق العام إذا ما تمت المبالغة فيه، فإنه سيشكل حالة من الإدمان سواءً بالنسبة للفرد أو بالنسبة للمستثمر، وبالنسبة للاقتصاد بشكل عام. فالفرد يتوقع أن الوظيفة التي يبحث عنها ستكون وظيفة حكومية، والمستثمر يتوقع أن المشروع الذي سيحقق له الدخل والربح هو المشروع الحكومي، والنمو الاقتصادي في مجمله سيكون معتمداً على حجم هذا الإنفاق لا على كفاءته. القطاع الخاص ببساطة سيكون عالة على القطاع العام، والاقتصاد سيسير بقدم واحدة فقط.
لذلك، فإن هناك حاجة إلى مؤشر يمكن أن يساعد المواطن في تحديد أفضليات الإنفاق العام وعملية تخصيص الموارد، لكي يتحقق مستوى مقبول من العدالة في التخصيص، ولا تستأثر فئة بالفوائد من هذه الزيادات، بينما يكون ذلك على حساب فئة أخرى. هذا المؤشر يمكن أن يكون مؤشرا استرشاديا فقط ليعطي دلالة يمكن من خلالها معرفة التكلفة التي ترتبها مطالبة فئة من الناس بزيادة الإنفاق في مجال معين، كزيادة الأجور مثلاً، على الفئات الأخرى في المجتمع، كارتفاع الأسعار، أو على أقل تقدير أن يعكس تكلفة الفرص البديلة للإنفاق، التي تمثل تكلفة ما يتم التضحية به لقاء تبني خيار معين. خيار آخر لكي نعكس التكاليف الإجمالية للإنفاق العام، هو احتساب التكلفة التي سيتحملها المواطن على افتراض تمويل هذا النفقة (سواءً مشروع أو زيادة في الأجور أو غيرها من أوجه الإنفاق العام) من مصدر آخر غير عوائد النفط، كضريبة الدخل في حال الدول الأخرى. (معادل الضريبة).
الهدف من طرح فكرة المؤشر الذي يعكس تكلفة الإنفاق العام على كل فئات المجتمع في حال عدم تمويل هذا الإنفاق من عوائد النفط، هو موازنة مطالبات الفئات المختلفة من المجتمع (سواءً المسؤول الحكومي أو الفرد) بزيادة الإنفاق العام في مختلف المجالات، دون وجود مبرر اقتصادي لذلك. كثير من أوجه الإنفاق العام يمكن أن يضطلع القطاع الخاص بها إذا استطاعت جهة كوزارة الصحة مثلاً توفير البيئة التشريعية والتنظيمية الملائمة لتعزيز دور القطاع الخاص بالاضطلاع بتقديم الخدمات الصحية. كثير من المشاريع الكبرى والتي تكلف خزانة الدولة الأموال الطائلة، يمكن أن يكون عائدها الاقتصادي والاجتماعي أكبر في حال تم توزيعها على أكثر من منطقة. وكثير من الوظائف إحداثها في بعض القطاعات وبعض المدن، يمكن أن يكون لها عائد في قطاعات أخرى وفي مدن أخرى. المشكلة بمعنى آخر ليست في زيادة أو نقص الإنفاق، وإنما هي مشكلة كفاءة هذا الإنفاق. هذا يؤكد ضرورة الحاجة إلى إيجاد نموذج جديد للإنفاق العام يسهم في توزيع العوائد والتكاليف المترتبة على ذلك (سواءً الصريحة أو الضمنية) على جميع أفراد المجتمع بشكل عادل نسبياً، وقد تكون فكرة النموذج المعتمد على (معادل الضريبة) الأقرب لتحقيق ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي