تخيّل لو أن سعر النفط انخفض وأصبح لا يساوي بضعة سنتات

تطرقت خلال سلسلة مقالات عن نظرة الاقتصاديين للتنمية الحقيقية التي تعني ''زيادة معدل دخل الفرد'' والشروط التي ينبغي للدول اتباعها إذا أرادت تحقيق تنميتها وفقا لهذا. فعرضت في أول مقال الجزء النظري للموضوع ثم بينت الشروط التي حددها علماء الاقتصاد للوصول إلى التنمية الحقيقية. وفي المقالات الأخرى بينت أين نحن من كل هذا؟ وماذا حققنا كي نصل إلى التنمية الحقيقية؟ وبقي لنا مناقشة الشرط الخامس والأخير الذي سيقودنا في نهاية المطاف للوصول إلى التنمية الحقيقية ومن ثم زيادة دخل الفرد المحرك الأساس لعجلة التنمية.
ذكرت من قبل خمسة شروط يجب توافرها للوصول إلى التنمية الحقيقية وناقشت بشيء من التفصيل أربعة منها وبقي لنا الشرط الخامس وهو ''المحافظة على الموارد الطبيعة من النضوب والاستنزاف كالمعادن والغابات والأنهار للوصول إلى التنمية المستدامة''. وهذه الموارد حبا الله بها بعض البلاد في هذا الكوكب وحرم منها آخرين لحاجة يعلمها سبحانه وتفسيرنا نحن البشر لهذه الظاهرة أن تبقى الأمم مهما بلغت قوتها وعظمت هيبتها في حاجة إلى الأمم الأخرى. من أجل هذه الموارد تجيش الجيوش وتحاك المؤامرات وتعقد الاتفاقيات، وقد يتهور البعض ويسطو على دولة أخرى تستبيح كل شيء من أجل التمكن من مواردها الطبيعية وما العراق وأفغانستان عنا ببعيد. وهذه الموارد وإن كثرت لا محالة مصيرها إلى النضوب، كما أنها وإن كانت تحت سيطرة دولة بعينها إلا أن للدول الأخرى وللأجيال المقبلة نصيبا منها.
وموضوع الموارد الطبيعية يقودنا إلى مناقشة المنتجات التقليدية وغير التقليدية التي انبثقت منها الصادرات التقليدية وغير التقليدية. ولكن ما الفرق بين المنتجات التقليدية وغير التقليدية؟ المنتجات التقليدية هي ذلك النوع من المنتجات التي لها تاريخ استهلاكي في اقتصاد الدولة وتعتبر مصدرا قويا من مصادر دخل الدولة لعقود كالتمور في العراق والقطن في مصر والنفط في السعودية والبن في البرازيل. فهذه منتجات تقليدية في الدول المعنية، فالنفط منتج تقليدي في السعودية إلا أنه منتج غير تقليدي في البرازيل، كما أن القطن منتج تقليدي في مصر إلا أنه ليس كذلك في العراق وهكذا.
ومهمة الدولة التي تريد أن تصل إلى التنمية الحقيقية وتحقق الأمن والرفاهية الاقتصادية أن تتعرف على منتجاتها التقليدية ونسبة صادراتها منها وتحول اعتمادها من الاستثمار في المنتجات التقليدية إلى المنتجات غير التقليدية. وهذا يعتمد على عدة معايير، منها تصنيف الدولة بين متقدمة إلى نامية إلى أقل نموا، كما يعتمد على الوقت، فالتحول من اعتماد الدولة على الصادرات التقليدية إلى الصادرات غير تقليدية يحتاج إلى عقود من التخطيط الاستراتيجي والإنتاج والمتابعة.
فلو نظرنا إلى بلادنا وفقا لهذه الحقائق وأردنا أن نقيس معدل الأمان الاقتصادي نجد أن النفط هو المنتج التقليدي ونسبة الصادرات من هذا المنتج التقليدي تتعدى 90 في المائة من إجمالي الصادرات، أي أن الصادرات غير التقليدية أقل من 10 في المائة من إجمالي صادرات السعودية. وهذا الوضع لا يسر ولهذا يجب أن يتحول اقتصادنا من الاعتماد على الصادرات التقليدية إلى الصادرات غير التقليدية، والمزعج في الأمر أن هذا التحول يحتاج إلى عقود وقدر كبير من التنبؤ ومقدرة على التسويق. فإذا أردنا أن نصل إلى معدل الأمان فعلينا أن نتحول تدريجيا من الاعتماد على الصادرات التقليدية (النفط) إلى الصادرات غير التقليدية كالبلاستيك مثلا أو أي منتج آخر لا يعتمد في إنتاجه على المياه. فالتمور مثلا لا تعتبر منتجات غير تقليدية في بلادنا ويجب عدم الاعتماد عليها كمصدر دخل للدولة لأنها تعتمد على المياه كمصدر أساس للإنتاج والمياه شحيحة في جزيرة العر ب.
وقد بدأت بلادنا منذ الثمانينيات من القرن الماضي التوجه نحو تنمية الصادرات غير التقليدية فأنشأت مركزا لتشجيع الصادرات غير التقليدية يطلق عليه ''مركز تنمية الصادرات'' يتبع لمجلس الغرف التجارية، إلا أن الأمر توقف فجأة ويبدو أن الأمر مرتبط بأسعار النفط. عندما تنخفض أسعار النفط يبدأ الحديث عن أهمية تنويع مصادر دخل الدولة وتبدأ الوزارات المعنية بترتيب أوراقها ولملمة أفكارها ونرى وسائل الإعلام تعرض علينا إحصائيات مغلوطة عن نسبة الصادرات غير التقليدية في محاولة يائسة وسباق مع الزمن وعندما ترتفع أسعار النفط تلغى فكرة التركيز على الصادرات غير التقليدية.
نتمنى أن يؤخذ الأمر مأخذ الجد وأن نعي أن الاعتماد على مصدر وحيد وغير مستقر وقابل للنضوب هو أمر يحتاج منا إلى وقفة. يجب أن ندرك قبل فوات الأوان أن النفط مورد قابل للنضوب، كما أنه ليس حكرا على هذا الجيل بل لنا وللأجيال المقبلة وعلمية التحول من الاعتماد على المنتجات التقليدية إلى المنتجات غير التقليدية يحتاج إلى عقود من الإنتاج والاستثمار فيسخر جزءا من مورد الدولة الذي يأتي من الصادرات التقليدية ''النفط'' إلى الاستثمار في الصادرات غير التقليدية وتشجيع الجهات المعنية في هذا الجانب وألا يكون الأمر مرهونا بارتفاع أو انخفاض أسعار النفط.
تخيل معي لو أن سعر النفط انخفض وأصبح لا يساوي بضعة سنتات أو أن هذا المنتج أصبح غير براق كما هو عليه الآن، وهذا قد يحدث في أي وقت، فمن يتجرأ ويقنعنا أن هذا لن يحدث؟ لو حدث فما عسانا أن نفعل؟ سنتحول من مجتمع مترف غير منتج إلى مجتمع فقير غير منتج فتجتمع لدينا البطالة والفقر لأنه ليس لدينا بديل استراتيجي آخر يحل محل النفط الذي يفترض أننا قد أعددنا له من قبل. بطبيعة الحال قامت بعض الدول المماثلة لنا بالتيقظ مبكرا واستثمرت في مجالات غير تقليدية كما تفعل الإمارات إلا أن هناك مآخذ وهو أن غالبية استثماراتها كانت في الخدمات والنظريات الاقتصادية تقول إن على الدول النامية إن أرادت أن تنوع مصادر دخلها أن تتحول إلى الصناعات غير التقليدية وتستثمر في الصناعات دون الخدمات لأسباب لا يتسع المكان لذكرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي